28- هجرة الحبشة


  • من صحيح السيرة النبوية:
    تنبيه: سأضع تفسير الكلمات والجمل في ضمن الحديث، وأجعله بين قوسين؛ كي يكون أسهل على القارئ.

    28- قال ابن كثير رحمه الله:

    باب هجرة من هاجر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من (مكة) إلى أرض الحبشة فراراً بدينهم من الفتنة

    قد تقدم ذكر أذية المشركين للمستضعفين من المؤمنين، وما كانوا يعاملونهم به من الضرب الشديد والإهانة البالغة، وكان الله عز وجل قد حجرهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنعه بعمه أبي طالب، كما تقدم تفصيله ولله الحمد والمنة. ثم ذكر قصة الهجرة. انتهى

    أخرج أصل خبر الهجرة الشيخان عن أبي موسى، قال: بلغنا مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه، أنا وأخوان لي، أنا أصغرهما، أحدهما أبو بردة والآخر أبو رهم - إما قال بضعاً وإما قال: ثلاثة وخمسين أو اثنين وخمسين رجلاً من قومي - قال فركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عنده، فقال جعفر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا هاهنا، وأمرنا بالإقامة فأقيموا معنا، فأقمنا معه حتى قدمنا جميعاً، قال: فوافقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر، فأسهم لنا، أو قال أعطانا منها، وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئاً، إلا لمن شهد معه، إلا لأصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه، قسم لهم معهم، قال: فكان ناس من الناس يقولون لنا - يعني لأهل السفينة -: نحن سبقناكم بالهجرة. قال فدخلت أسماء بنت عميس، وهي ممن قدم معنا، على حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم زائرة، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر إليه، فدخل عمر على حفصة، وأسماء عندها، فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس، قال عمر: الحبشية هذه؟ البحرية هذه؟ فقالت أسماء: نعم، فقال عمر: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم، فغضبت، وقالت كلمة: كذبت يا عمر*(العرب تطلق الكذب على الخطأ أحياناً، وهو المراد هنا. والله أعلم)*، كلا، والله كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في دار، أو في أرض البُعداء البُغضاء في الحبشة، وذلك في الله وفي رسوله، وايم الله *(كلمة تقال للقسم ومثلها هيم الله الآتية في كلام النجاشي)* لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن كنا نُؤذَى ونخاف، وسأذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأسأله، ووالله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد على ذلك، قال: فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبي الله إن عمر قال: كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم، أهل السفينة، هجرتان» قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتوني أرسالاً *(أي أفواجاً فوجاً بعد فوج)*، يسألوني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو بردة: فقالت أسماء: فلقد رأيت أبا موسى، وإنه ليستعيد هذا الحديث مني. انتهى

    وأخرجها بالتفصيل إسحاق بن راهويه، والإمام أحمد في مسنديهما، قال أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، عن أم سلمة ابنة أبي أمية بن المغيرة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت:

    لما نزلنا أرض الحبشة، جَاوَرْنا بها خيرَ جار: النجاشي، أَمِنَّا عَلَى دِينِنَا، وعبدنا الله لا نُؤذَى، ولا نسمع شيئاً نكرهه، فلمّا بلغ ذلك قريشاً، ائتَمَروا *(أي تشاوروا)* أن يبعثوا إلى النجاشيّ فينا رجلين جَلْدَين *(قويين)*، وأن يُهدُوا للنجاشي هدايا مما يُستطرف *(أي يستحسن)* من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها إليه الأَدَم *(الجلد)*، فجمعوا له أَدماً كثيراً، ولم يتركوا من بَطارِقتِه *( البطريق هو القائد)* بِطريقاً إلا أهدوا له هدية.

    ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي، وعمرو بن العاص بن وائل السهمي، وأَمرُوهما أمرَهم، وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته، قبل أن تكلموا النجاشي فيهم، ثم قدِّموا للنجاشي هداياه، ثم سَلُوه أن يُسلمهم إليكم قبل أن يُكلِّمَهم، قالت: فخرجا، فقدما على النجاشي، ونحن عنده بخير دار، وعند خير جار، فلم يَبقَ من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يُكلما النجاشي.

    ثم قالا لكل بطريق منهم: إنه قد صَبَا *(أي مال )* إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدينٍ مبتدعٍ، لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم لِنَردَّهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم، فتُشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا، ولا يكلمهم، فإنَّ قومهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم، فقالوا لهما: نعم.

    ثم إنهما قربا هداياهم إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلماه، فقالا له: أيها الملك، إنه قد صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بَعَثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم، وأعمامهم وعشائرهم، لِتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً*(أي أبصر بهم، أي عينهم وإبصارهم فوق عين غيرهم فيهم)*، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.

    قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم، فقالت بطارقته حوله: صدقوا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى بلادهم وقومهم.

    قالت: فغضب النجاشي، ثم قال: لا هَيْمُ الله، إذاً لا أُسلمهم إليهما، ولا أُكادُ، قوماً جاوروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم ماذا يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان؛ أسلمتهم اليهما ورددتهم الى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك؛ منعتهم منهما، وأحسنت جِوارهم ما جاوروني.

    قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاهم فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم، كائن في ذلك ما هو كائن.

    فلما جاءوه، وقد دعا النجاشي أَساقِفَته*(جمع أسقف من علماء النصارى فوق القسيس ودون المطران)*، فنشروا مصاحفهم حوله، سألهم، فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين أحد من هذه الأمم؟

    قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب، فقال له: أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونُسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعَفافه.

    فدعانا إلى الله لنوحده، ونعبده، ونخلع ما كنا نحن نعبد وآباؤنا من دونه؛ من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة، والزكاة، والصيام.

    -قالت: فعدد عليه أمور الإسلام- فصدَّقنَاه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حَرَّم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا؛ ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا، وشَقُّوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نُظلم عندك أيها الملك.

    قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأه عليَّ، فقرأ عليه صدراً من {كهيعص}.

    قالت: فبكى والله النجاشي حتى أَخضَلَ لحيته*(أي بلها بالدموع)*، وبكت أساقِفته حتى أَخضَلُوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكم أبداً، ولا أُكادُ*(ولا أخشى أن يحلقني كيد في تسليمهم)*.

    قالت أم سلمة: فلما خرجا من عنده، قال عمرو بن العاص: والله لأُنبئنَّه*(لأعلمنه)* غداً عيبهم عنده، ثم أَستأصِلُ به خضراءهم*(أي أقطعهم من أصلهم)*، قالت: فقال له عبد الله بن أبي ربيعة - وكان أتقى الرجلين فينا -: لا تفعل فإن لهم أرحاماً، وإن كانوا قد خالفونا. قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد.

    قالت: ثم غدا عليه الغد، فقال له: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً، فأرسِل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه، قالت: فأرسَل إليهم يسألهم عنه، قالت: ولم ينزل بنا مِثلها.

    فاجتمع القوم، فقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول -والله - فيه ما قال الله، وما جاء به نبينا، كائناً في ذلك ما هو كائن.

    فلما دخلوا عليه، قال لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟

    فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا: هو عبد الله ورسوله، وروحه، وكلمته*(أي روح من خلقه، والكلمة هي كن فكان )* ألقاها إلى مريم العذراء*(التي لم يمسسها رجل)* البَتُول*( المقطوعة عن الرجال، فلم يكن لها زوج)*، قالت: فضرب النجاشي يده إلى الأرض، فأخذ منها عوداً، ثم قال: ما عدا عيسى ابن مريم ما قلتَ هذا العود.

    فتناخرت بطارِقتُه حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا، فأنتم سُيُومٌ بأرضي - والسيوم: الآمنون – من سبكم غُرِّم، ثم من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم، فما أُحب أن لي دَبْراً ذهباً، وأني آذيتُ رجلاً منكم - والدَّبْر بلسان الحبشة: الجبل - ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لنا بها، فوالله ما أخذ الله مني الرِّشوة حين رد عليّ مُلكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيّ، فأطيعهم فيه. قالت: فخرجا من عنده مَقبُوحين مردوداً عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار.

    قالت: فوالله إنا على ذلك إذ نزل به - يعني من ينازعه في ملكه - قالت: فوالله ما علمنا حُزناً قط كان أشد من حزن حَزِنّاه عند ذلك، تخوُّفاً أن يظهر ذلك على النجاشي، فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه.

    قالت: وسار النجاشي، وبينهما عَرض النيل، قالت: فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رجل يخرج حتى يحضر وقعة القوم، ثم يأتينا بالخبر؟ قالت: فقال الزبير بن العوام: أنا، قالت: وكان من أحدث القوم سناً، قالت: فنفخوا له قِربة، فجعلها في صدره ثم سبح عليها، حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم. قالت: ودعونا الله للنجاشي بالظهور على عدوه، والتمكين له في بلاده، واستَوْسق عليه أمر الحبشة، فكنا عنده في خير منزل، حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة. انتهى

    هذه الطريق هي أصح طرق هذا الحديث بهذا التمام من رواية ابن إسحاق عن الزهري وقد صرح بالتحديث ولها شواهد. والله أعلم

    كتبه أبو الحسن علي الرملي

    22 /1 /1440 هجري

جميع الحقوق متاحة بشرط العزو للموقع © 2024 موقع معهد الدين القيم