32- ذكر عزم أبي بكر الصديق صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيره على الهجرة إلى أرض الحبشة.

إسم الكاتب : أبو الحسن علي الرملي


  • من صحيح السيرة النبوية:

    32- ذكر عزم أبي بكر الصديق صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيره على الهجرة إلى أرض الحبشة.

    أخرج البخاري في صحيحه (3905): عن عائشة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: لم أعقل أبوي قط، إلا وهما يدينان الدين (1)، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار، بكرة وعشية (2)، فلما ابتلي المسلمون (3) خرج أبو بكر مهاجراً نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ بَرْكَ الغِمَادِ (4) لقيه ابن الدَّغِنَةِ (5) وهو سيد القارة (6)، فقال: أين تريد يا أبا بكر؟

    فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض (7) وأعبد ربي.

    قال ابن الدَّغِنَةِ: فإن مثلك يا أبا بكر لا يَخرُج ولا يُخرَج، إنك تُكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتَحمل الكَلّ، وتَقري الضيف، وتعين على نوائب الحق (8)، فأنا لك جار (9)، ارجع واعبد ربك ببلدك.

    فرجع وارتحل معه ابن الدَّغِنَةِ، فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش، فقال لهم: إن أبا بكر لا يَخرج مثله ولا يُخرج، أتُخرجون رجلاً يكسب المعدوم ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟!

    فلم تكذِّب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا: لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل فيها وليقرأ ما شاء، ولا يُؤذينا بذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا.

    فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر.

    فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره، ولا يَستَعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير داره، ثم بدا لأبي بكر، فابتنى مسجداً بفناء داره، وكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن، فيَتَقذَّفُ (10) عليه نساء المشركين وأبناؤهم، وهم يعجبون منه وينظرون إليه.

    وكان أبو بكر رجلاً بَكّاء، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن (11)، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم، فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك، على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك، فابتنى مسجداً بفناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يُعلن بذلك، فاسأله أن يَرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نُخفِرَك (12)، ولسنا مُقرِّين لأبي بكر الاستعلان.

    قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإمّا أن تقتصر على ذلك، وإما أن تَرجع إليّ ذمتي، فإني لا أُحب أن تسمع العرب أني أُخفرتُ في رجل عقدت له، فقال أبو بكر: فإني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله(13) عز وجل.

    والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين: «إنِّي أُريتُ (14) دار هجرتكم، ذات نخل بين لابتين(15)» وهما الحَرَّتان(16)، فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قِبَل المدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «على رسلك(17)، فإني أرجو أن يؤذن لي»، فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: «نعم»، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السَّمُر وهو الخَبَطُ (18)، أربعةَ أشهُرٍ.
    ثم ذكر تمام الحديث في الهجرة كما سيأتي مبسوطاً إن شاء الله.
    ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
    (1) يعني كانت صغيرة عندما بعث النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كبرت وصارت تعقل وجدت أباها وأمها مسلمين، فيكون معنى: وهما يدينان الدين أي يتدينان بدين الإسلام ؛ فإن مولدها قبل الهجرة بنحو سبع سنين، وكان أبواها متقدمي الإسلام.
    (2) البكرة: أول النهار من طلوع الشمس إلى نصف النهار، والعشية آخره، قال الجوهري: العشي والعشية من صلاة المغرب إلى العتمة – العتمة: ثلث الليل الأول بعد غيبوبة الشفق- وقيل: العشي من الزوال إلى العتمة، وقيل: إلى الفجر.

    قال أهل العلم: فيه فضيلة للصديق - رضي الله عنه - وبيان تواضعه - عليه الصلاة والسلام – وموادته أصحابه وأنه لا بأس بإكثار الزيارة عند تأكد المودة أو الاحتياج لذلك.
    (3) أي امتحنوا بأذى المشركين.
    (4) موضع في أقاصي هجر، وقال في النهاية: هو اسم موضع باليمن.
    (5) هو أخو بني الحارث بن يزيد؛ أحد بني بكر بن عبد مناة بن كنانة، كان سيد قومه ومن حالفهم.
    (6) قبيلة معروفة، موصوفة بجودة الرمي.
    (7) أسير وأذهب.
    (8) (تكسب المعدوم) أي تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك (وتصل الرحم) أي القرابة (وتَحمِل الكلّ) تحمل ثقل العجزة (وتقري الضيف) تكرم الضيف (وتعين على نوائب الحق) أي تعين من أصابته حاجة، قال أهل العلم: فوصفه بمثل ما وصفت خديجة -رضي الله عنها- به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يدل على اشتهار أبي بكر -رضي الله عنه- بالصفات البالغة أنواع الكمال.
    (9) أي مجير أمنع من يؤذيك.
    (10) أي يتدافعون على أبي بكر -رضي الله عنه-.
    (11) بكاء: كثير البكاء، لا يملك عينيه: أي لا يمسكهما عن الدمع، من خشوعه ورقته رضي الله عنه.
    (12) أي ننقض عهدك.
    (13) أي بحمايته.
    (14) أعلمت أو من الرؤيا في المنام.
    (15) فسرها الزهري في الحديث بالحرتين.
    (16) تثنية حَرَّة، وهي أرض ذات حجارة سوداء كأنها احترقت بِحَر النار.
    (17) على مَهلك، أي اصبر.
    (18) ما يخبط بالعصا فيسقط من ورق الشجر.



    كتبه أبو الحسن علي الرملي

    11 / 5 /1440 هجري

جميع الحقوق متاحة بشرط العزو للموقع © 2024 موقع معهد الدين القيم