شرح الحديث الأول من بلوغ المرام


  • الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله, أما بعد:

    فمعنا الدرس الثاني من دروس شرح بلوغ المرام, قال المؤلف رحمه الله:

    (كتاب الطهارة)

    (باب المياه)

    شرحنا معنى الكتاب ومعنى الطهارة ومعنى الباب وبيّنّا لماذا يبدأ العلماء بالمياه في كتب الفقه, شرحنا ذلك وبيّنّاه في شرح الدرر البهية فلا حاجة لإعادة ذلك هنا.

    وهذا الشرح إن شاء الله سيكون مبنيّاً على ما ذكرناه وفصّلناه في كتب التأصيل العلمي السابقة, في الدرر البهية والورقات ولب الأصول وعلم الحديث, فهو كالمتمم لها, فلا نطيل بذكر الأساسيات فهذه الأساسيات والمبادئ كلها قد ذُكِرَت هناك.

    لذلك فهذا الشرح يصلح للذين درسوا تلك الأساسيات وانتهوا من مرحلة التأصيل, على الأقل يكونون قد درسوا شيئاً من الفقه وشيئاً من الأصول وشيئاً من علم الحديث.

     ومن لم يكن هذا حاله فأنصحه أن يرجع إلى الدروس التي درّسناها وهي موجودة صوتية وموجودة مفرغة على شبكة الدين القيم وعلى منتديات الدين القيم ويبدأ من هناك, وبعد أن ينتهي بالتسلسل الذي ذكرناه والذي بيّنّاه ومشينا عليه بعدها يأتي ويلتحق بنا في دروس البلوغ.

    على أقل الأحوال يدرس الورقات ويدرس كتاب الطهارة والصلاة من الدرر البهية ويدرس علوم الحديث ثم بإمكانه بعد ذلك أن يمشي معنا وأن يفهم ما سنذكره إن شاء الله تعالى.

    التدرج وعدم العجلة أمر مهم جداً في طلب العلم, فلا يقفز طالب العلم, القفز وكثرة التقطع والتنقل والعجلة كذلك , هذه أشياء كلها مضرّة بطالب العلم.

    الحديث الأول: قال المؤلف رحمه الله: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ». أَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ, وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَاللَّفْظُ لَهُ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالتِّرْمِذِيُّ)

    قوله: (عن أبي هريرة): حذف المؤلف رحمه الله الإسناد اختصاراً لكنه عوّض ذلك بذِكرِ مَن خرّج الحديث بعد ذكره للحديث.

    فتخريج الحديث يغنيك عن الإسناد, لأنك إذا أردت الإسناد تجده في المخارج التي ذُكِرَت.

    فقال لنا المؤلف الآن: (أخرجه الأربعة) فتجد الحديث هناك بإسناده , فأغنى ذلك عن ذكر الأسانيد, لذلك يخرّج العلماء, يقول لك: أخرجه فلان, يعني أن الحديث تجده في الكتاب الفلاني بإسناده مذكوراً, اذهب هناك واطّلع على إسناده إذا شئت.

    وأبو هريرة صحابي شهير مُكثِر, من أراد ترجمته فليرجع إليها في "سير أعلام النبلاء" أو في كتاب "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر, هذا الكتاب هو أنفس ما أُلّف في أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم, وقد جمع جهود مَن قبله.

    عندنا عدة كتب أُلّفت في الصحابة, جمع تلك الجهود الحافظ ابن حجر في كتابه " الإصابة ".

    أبو هريرة غني عن التعريف وقد سبق وترجمنا له في أكثر من درس.

    نبدأ أولاً بتخريج الحديث وجمع طرقه والحكم عليه, يعني الصنعة الحديثية قبل الكلام على متن الحديث من الناحية الفقهية.

    قال: (أخرجه الأربعة) وقد بيّن لنا في المقدمة ماذا يعني بهذا, يعني أصحاب السنن الأربعة.

    يعني أخرجه أبو داود في سننه وأخرجه الترمذي في جامعه وأخرجه النسائي في سننه الصغرى.

    النسائي كما تعلمون له كتابان: له السنن الكبرى وله السنن الصغرى.

    الكتاب الذي هو معتمد عند العلماء على أنه من ضمن كتب السنن التي يسمونها بالكتب الستة هو "السنن الصغرى" لا "الكبرى".

    "الكبرى" أعم وأشمل وفيه كلام عن العلل, أما "الصغرى" فلا, هو منتقى ومستخلص من الكبرى.

    اختلف العلماء فيمن انتقاه : هل هو تلميذ النسائي ابن السّنّيّ أم النسائي نفسه؟ والظاهر أن الثاني أرجح والله أعلم.

    قال المؤلف رحمه الله: (الأربعة) قلنا هم: أبو داود في سننه والترمذي في جامعه والنسائي في سننه, عندما نقول: النسائي في سننه ونعزو إلى هذه الكتب فنعني به السنن الصغرى لا الكبرى, وابن ماجه: يعني أخرجه ابن ماجه أيضاً في سننه.

    وقد تحدثنا عن هذه السنن وعمّا فيها وفصّلنا هذا كله في دروسنا في الباعث الحثيث.

    إذاً الآن الحديث تجده مخرّجاً بإسناده في هذه الكتب الأربعة, نفهم تلقائياً من هذا التخريج أن الحديث ليس في البخاري ولا في مسلم, من أين فهمنا ذلك؟ لأنه من المعيب عند أهل العلم بالتخريج أن تخرّج الحديث في غير الصحيحين وهو في الصحيحين , هذا معيب.

    يعني إذا كان الحديث موجوداً في صحيح البخاري أو في صحيح مسلم أو متفقاً عليه وتذهب وتخرّجه في كتاب آخر فهذا غلط, لأن صحيحي البخاري ومسلم قد امتازا بالصحة, فأنت إذا قلت أخرجه البخاري قد أفدتني فائدتين:

    - أفدتني بأن الحديث مخرّج بإسناده في صحيح البخاري

    - وأفدتني بأن الحديث صحيح إلا ما انتُقد طبعاً وهذه قليلة ليس هذا موطن الحديث عنها, وقد ذكرنا وفصلنا هذا القول في شرحنا على كتب المصطلح.

    لذلك -بارك الله فيكم- عند التخريج: إذا كان الحديث متفقاً عليه فلا يصح أن تقول أخرجه البخاري وتسكت أو أخرجه مسلم وتسكت, بل تقول: متفق عليه, لأن هذا أقوى.

    الحديث المتفق عليه أقوى من الحديث الذي انفرد بإخراجه البخاري أو مسلم, فلذلك عند التخريج فأنت بحاجة إلى أن تقول: هو حديث متفق عليه, فإذا كان متفقاً عليه وقلت أخرجه البخاري أو مسلم فهذا عيب في التخريج, وإذا كان في البخاري وقلت في مسلم أيضاً فهذا عيب وإن كان أخف وأهون من أن تأتي وتخرجه من كتب السنن وهو في أحد الصحيحين , لكن هذه طريقة أهل العلم في التخريج.

    إذا كان الحديث متفقاً عليه فتقول: متفق عليه, هذه أعلى مرتبة, ثم إذا أخرجه البخاري وحده تقول أخرجه البخاري وإذا أخرجه مسلم وحده تقول أخرجه مسلم, ثم إذا لم يكن في الصحيحين تنتقل بعد ذلك إلى كتب السنن.

    الآن الحافظ ابن حجر رحمه الله قال: (أخرجه الأربعة) أفادنا فائدة أن هذا الحديث ليس في الصحيحين ولا في أحدهما, هذا تفهمه تلقائياً من طريقة التخريج.

    هذا إذا كان المخرّج عالماً بالحديث, يعرف كيف يخرّج, فتلقائياً عندما يقول لي في السنن أعرف أنه ليس في الصحيحين.

    إذا ذهب وخرّجه في سنن البيهقي أعرف أن الحديث ليس في الكتب الستة, أو قال أخرجه أحمد وسكت, أعرف أن الحديث ليس في الكتب الستة, هذه طريقة أهل العلم في التخريج إذا كان المخرّج عالماً بعلم الحديث.

    أرجع وأقول هذا لأن الذي ليس له علم بعلم الحديث أو كان ضعيفاً في التخريج لا يراعي هذه المعاني أو ربما يراعيها ولكنه لا يستطيع أن يقف على الحديث في جميع مصادره.

    قال المؤلف رحمه الله: (وابن أبي شيبة واللفظ له): أخرجه أيضاً ابن أبي شيبة, انظر! الآن مع أن ابن أبي شيبة أعلى إسناداً من الأربعة وأكبر سناً ولكن الحافظ ابن حجر لم يكتف بالتخريج له, أخذ لفظه نعم, لكن عند التخريج خرّج للأربعة أولاً.

    لأنه عند أهل العلم: الكتب الستة أشهر من غيرها فيقدمونها في الذكر.

    ابن أبي شيبة هذا هو: أبو بكر ابن أبي شيبة, إذا أطلق العلماء العزو إليه فيعنون به أشهر كتبه وهو "المصنَّف", له أيضاً كتاب آخر اسمه "المسند" لكن هم إذا أطلقوا يعنون "المصنف".

    فيكون هذا الحديث موجوداً في "المصنف" لابن أبي شيبة, وهذا الكتاب معروف بفائدته في الإكثار من ذكر الآثار الموقوفة والمقطوعة, تعرفون الفرق بين الموقوف والمقطوع, هذه الدروس كلها مبنية على ما سبق, الآن لا تحتاجون أن أصف لكم ما هو الموقوف وما هو المقطوع لأنه كله قد تقدم معكم في المصطلح.

    ابن أبي شيبة الآن أعلى إسناداً وأكبر سناً فكان ينبغي عند التخريج أن يُقدَّم لأن التقديم في التخريج يكون بهذه الطريقة: الأعلى إسناداً, الأكبر  سناً يُقدَّم, الأكبر سناً غالباً يكون أعلى إسناداً, غالباً أقول ليس دائماً, فلذلك يقدم على غيره, لكن في الصحيحين والكتب الستة لا, الأمر ليس كذلك, لأن هذه الكتب أشهر وأكثر انتشاراً بين أيدي أهل العلم, لذلك العلماء كانوا يقدّمون هذه الكتب على غيرها, لكن إذا خرجت عن الكتب الستة تراعي هذا المعنى.

    وبعض العلماء يقدم مسند الإمام أحمد على ذكر الأربعة, لأن الإمام أحمد أعلى إسناداً وأكبر سنّاً من هؤلاء, لكن البعض الآخر لا, يقدم الستة دائماً, الصحيحين والأربعة ثم يذكر غيرهم بعد ذلك.

    الأمر سهل في هذا, القضية اصطلاحية.

    الآن نحن عندما نبحث من أجل أن نقف على الإسناد ونحن نحرص على أن نبدأ بالإسناد الأعلى لأننا كما ذكرنا فائدة العلو في الإسناد أنه يكون أقل خطأً, فعندما بحثنا في هذا الحديث عن الأعلى إسناداً وجدنا الحديث موجوداً عند مالك في "الموطأ", ومالك أكبر من كل من عزا إليهم المؤلف, أكبر حتى من أحمد, فإذاً الرجوع إلى موطأ الإمام مالك هو الأفضل في مثل هذا الموطن.

    فرجعنا إلى موطّأ الإمام مالك فوجدناه يروي هذا الحديث عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ، مِنْ آلِ بَنِي الْأَزْرَقِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ أَنَّهُ أخبره أنه سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ، وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا، أَفَنَتَوَضَّأُ بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ»

    ومن طريق مالك أخرجه جمع كبير منهم القاسم بن سلّام وابن أبي شيبة وأحمد والدارِمي والأربعة وابن الجارود وابن خزيمة وغيرهم, خرّجوه من طريق الإمام مالك رحمه الله.

    صفوان بن سُلَيم: المدني الزهري مولاهم , ثقة عابد فقيه قال فيه الإمام أحمد:[ثقة من خيار عباد الله الصالحين] انتهى, وثّقه جمعٌ وأخرج له الشيخان, ورواية مالك عنه في الصحيحين.

    ثم سعيد بن سَلَمة: في رواية: من آل بني الأزرق, وفي رواية أخرى: من آل الأزرق, وفي رواية أخرى: من آل ابن الأزرق, هكذا جاء في رواياتٍ للحديث.

    قال الحافظ ابن حجر في "التهذيب": رَوَى عَن: الْمُغِيرَة بْن أَبي بردة، عَن أَبِي هُرَيْرة حديث البحر: [هُوَ الطهور ماؤه الحل ميتته]

    وعَنه: صفوان بْن سليم والجُلاح أبو كثير, وهو حديث في إسناده اختلاف..... قال النَّسَائي: ثقة.

    وذكره ابنُ حِبَّان فِي كتاب "الثقات" ]

    لاحظ هنا مَن وثّقه؟ النسائي وذكره ابن حبان في الثقات, هذا تكلمنا عنه في السابق أن النسائي وابن حبان يوثّقان المجاهيل, إذا ذكر ابن حبان الشخص في "الثقات" ولم يذكره بجرح ولا تعديل فهو يذكر المجاهيل بهذه الطريقة, والنسائي يوثق المجاهيل أحياناً.

    قال ابن حجر:[قلت: وصحّح البخاري فيما حكاه عنه الترمذي في "العلل المفرد" حديثه وكذا صححه ابن خزيمة وابن حبان وغير واحد] انتهى.

    سيأتي إن شاء الله أن الحديث صححه أئمة كبار ومنهم البخاري فهو توثيق ضمني لسعيد وشيخه المغيرة, هكذا اعتبره بعض أهل العلم, وسيأتي إن شاء الله الكلام على هذه النقطة.

    أما المغيرة بن أبي بردة الكناني: فقد ذكر الحافظ في "التهذيب" الخلاف في اسمه واسمِ سعيد بن سلمة الذي قبله, وذكر قول أبي داود فيه أنه معروف وذَكَرَ توثيق النسائي وذِكرَ ابن حبان له في "الثقات", ثم قال ابن حجر في آخر ما ذكر: [وصحح حديثه عن أبي هريرة في البحر ابن خزيمة وابن حبان وابن المنذر والخطابي والطحاوي وابن منده والحاكم وابن حزم والبيهقي وعبد الحق وآخرون] انتهى.

    خالف في تصحيح الحديث ابن عبد البر وابن حزم بخلاف ما نقل عنه ابن حجر, ابن حزم نُقل عنه نقلان إلا أن يكون له قولان في المسألة -الله أعلم- ربما يكون له قولان.

    وأما ابن عبد البر فقال في "التهذيب": [اختلف أهل العلم في إسناده , وقال البخاري صحيح , لا أدري ما هذا منه ؟ - الكلام لابن عبد البر - ولو كان صحيحاً عنده لأخرجه في كتابه, وهذا الحديث لم يحتجّ أهل الحديث بمثل إسناده وهو عندي صحيح ]

    انظر! بعدما تكلم في الإسناد, الظاهر أنه يتكلم في الإسناد بسبب المغيرة وسعيد بن سلمة, فيهما جهالة على ظاهر الحال, لكن قال في النهاية: [هو عندي صحيح لأن العلماء تلقَّوه بالقبول والعمل به, لا يخالف في جملته أحد من الفقهاء وإنما الخلاف في بعض معانيه] انتهى نقلاً عن ابن الملقن في البدر المنير.

    ثم أخذ ابن الملقن يرد على ابن عبد البر كلامه, ونقل عن الشافعي قوله: [في إسناد هذا الحديث من لا أعرفه] قال البيهقي في "السنن": [يحتمل أن يريد سعيد بن سلمة أو المغيرة أو كلاهما] انتهى,وصححه البيهقي رحمه الله.

    وتوبع مالك عليه وروي بأوجه كثيرة أجودها وأصحها رواية مالك رحمه الله.

    وله شواهد ذكرها ابن الملقن وتكلم عنها في "البدر المنير" أفضلها حديث أبي هريرة هذا.

    وخلاصة القول فيما عُلِّل به هذا الحديث, هذه الخلاصة ذكرها ابن الملقن في "البدر المنير":
    - أولاً: جهالة سعيد والمغيرة, وهذه أقوى شبهة تُذكر على هذا الحديث, وهذه الجهالة تزول بتصحيح الإمام البخاري للحديث, فإما أن يكون البخاري قد صحّح الحديث لأن المغيرة وسعيد عنده ثقتان أو أنه صححه لشواهده, وعلى جميع الأحوال فالحديث يعتبر صحيحاً, ويزول هذا الإشكال إذا علمنا أن تصحيح البخاري يلزم منه توثيقه لسعيد والمغيرة, عندئذ نقول: الحديث صحيح لتوثيق البخاري لهما, وتوثيق البخاري قوي, أو أن نقول قد صححه البخاري لما له من شواهد وشواهده تكفي في تصحيحه.

    - العلة الثانية التي ذكروها للحديث: وهي الاضطراب, وهذه العلة ضعيفة, فرواية مالك من أجود الروايات التي وردت وأصوبها وهي صحيحة قدّمها أهل العلم على غيرها, قال البخاري: وحديث مالك أصح.

    - والعلة الثالثة: الإرسال, قالوا: روى الحديث يحيى بن سعيد عن رجل من أهل المغرب يقال له المغيرة بن عبدالله بن أبي بردة أن ناساً من بني مدلج أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ...فذكر الحديث , قالوا : يحيى بن سعيد أحفظ من صفوان بن سُليم وأثبت من سعيد بن سلمة.

    لكن في ترجيح هذه الطريق نظر , فقد اختُلف على يحيى فيها بخلاف رواية مالك فلم يحصل خلاف على مالك فيها فتقدَّم رواية مالك على يحيى.

    - العلة الرابعة: الاختلاف في اسم سعيد بن سلمة, والصحيح رواية مالك ومن وافقه فيها, ولا يضر الخلاف إذا عُرف حال الرجل وكذلك يقال في المغيرة, اختلفوا في اسمه أيضاً.

    الاختلاف في الاسم لا يضر إذا عُرف الشخص وعرف حاله فلا مشكلة في الاختلاف في الاسم.

    وللحديث شواهد ضعيفة يطول الكلام فيها, أطال ابن الملقن في "البدر المنير" الكلام على الحديث وذكر ما ذكرناه هنا ملخصاً وزاد عليه, من أراده يرجع إليه, والحديث بالجملة ثابت إن شاء الله والله أعلم.

    فقه الحديث :

    أول ما يستفاد من الحديث أن ماء البحر طاهر في نفسه مطهّر لغيره, وهذه أعظم فوائد هذا الحديث, فيصح التطهر بماء البحر.

    فالطَّهور الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم على الصحيح كما جاء في معاجم اللغة أنه طاهر في نفسه مطهّر لغيره.

    فقه الصحابة في هذا الموضوع:

    عندما تريدون أن تعرفوا مذاهب الصحابة في المسألة إما أن ترجعوا إلى نقولات الترمذي وابن المنذر أو أن ترجعوا إلى الكتب التي هي مظنة الآثار كــ"المصنف" لابن أبي شيبة و"المصنف" لعبد الرزاق, وكذلك أيضاً كتاب "اختلاف الفقهاء" لمحمد بن نصر المروزي, وكذلك كتاب "الطهور" للقاسم بن سلّام, هذا في مسائل الطهارة القاسم بن سلام اعتنى بنقل كلام أهل العلم من السلف رضي الله عنهم في هذه القضايا.

    هذه مراجع ترجع إليها لمعرفة الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم في فقههم في باب معين من أبواب الفقه.

    قال الترمذي بعد أن أخرج الحديث: [وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْهُمْ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ]

    للفائدة فأثر ابن عباس ذكره شيخنا رحمه الله في "الجامع الصحيح" وصحّحه هناك.

    قال الترمذي: [أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، لَمْ يَرَوْا بَأْسًا بِمَاءِ البَحْرِ " وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوُضُوءَ بِمَاءِ البَحْرِ، مِنْهُمْ: ابْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: هُوَ نَارٌ] لذلك كرهه, هذا الكلام كله للترمذي.

    قال أبو عبيد القاسم بن سلّام وهو ممن توفي في سنة 224هـ بعدما ذكر آثاراً عن الصحابة وغيرهم في جواز التطهر بماء البحر, قال: [وَهَذَا قَوْلُ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ , وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ , وَعَلَيْهِ أَهْلُ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ أَنَّهُ طَاهِرٌ مُجْزِئٌ وَفِيهِ قَوْلٌ سِوَاهُ] يعني هناك قول مخالف لهذا القول, ثم ذكر عن أبي هريرة بإسناد ضعيف وذكر عن ابن عمر وعن عبدالله بن عمرو ما ذكره الترمذي ثم أخذ يقوّي القول الأول وينتصر له ويضعّف القول الثاني, هناك كلام طيب له من شاءه فليراجعه في كتابه "الطهور".

    وقال ابن المنذر في "الأوسط": [وَمِمَّنْ رُوِّينَا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَاءُ الْبَحْرِ طَهُورٌ؛ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ] وذكر الآثار هذه بأسانيدها.

    فهذا مرجع أيضاً لمعرفة الآثار بأسانيدها, كتاب ابن المنذر "الأوسط" من أنفس كتب الفقه وأحسنها على مذهب أهل الحديث رحمه الله.

    ثم قال ابن المنذر: [وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَالْحَسَنُ]

    عطاء بن أبي رباح تلميذ ابن عباس

    وطاووس بن كيسان تلميذ ابن عباس

    والحسن البصري

    هؤلاء جميعاً أئمة من أئمة التابعين, قال: [وَهُوَ قَوْلُ مَالِكِ، وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ، والثَّوْرِيِّ، وَأَهْلِ الْكُوفَةِ]

    مالك كان في المدينة لذلك يذكرون أهل المدينة معه لكن هو كان إماماً مبرزاً بينهم

    وكذلك الثوري من أهل الكوفة لكنه كان إماماً مبرزاً فيهم, لذلك يذكرونه هو كرأس ثم يذكرون بعد ذلك أهل تلك المدينة

    [وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَهْلِ الشَّامِ] لاحظ! كان إماماً

     كان الأوزاعي إمام أهل الشام في زمنه

    الثوري إمام أهل الكوفة في زمنه

    مالك إمام أهل المدينة في زمنه

    قال ابن المنذر: [وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ] قال ابن المنذر: [وَبِهِ نَقُولُ لِظَاهِرِ نَصِّ الْكِتَابِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] وَمَاءُ الْبَحْرِ مِنَ الْمِيَاهِ دَاخِلٌ فِي جُمْلَةِ قَوْلِهِ {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] وَلِلثَّابِتِ عَنْ نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «هُوَ الطُّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ»] من هنا أخذ أهل العلم أن ابن المنذر يصحح الحديث, قال: الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم

    قال: [وَلِلْرِوَايَةِ الَّتِي رُوِّينَاهَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَهُوَ قَوْلُ عَوَامِّ أَهْلِ الْعِلْمِ] يعني أكثر أهل العلم على هذا القول.

    انظر طريقة ابن المنذر رحمه الله, هذه طريقة السلف رضي الله عنهم, ذكر الأدلة الشرعية وذكر أقوال الصحابة والتابعين وأتباع التابعين ثم الأئمة المتبوعين كمالك والشافعي وأحمد

    قال: [وَقَدْ رُوِّينَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو وَغَيْرِ ذَلِكَ] يعني قول آخر مخالف لهذا القول الذي يقول بجواز الطهارة بماء البحر, هذا القول الثاني يقول بعدم جواز التطهر بماء البحر, ثم ذكر عن ابن عمر أنه قال :[ التَّيَمُّمُ أَعْجَبُ إِلَيَّ مِنْهُ] عندما يقول لك الآن أن تتيمم أفضل من أن تتوضأ بماء البحر فإذاً ماء البحر لا يجزئ في الوضوء عنده, لأنه كيف تنصرف إلى التيمم مع وجود الماء؟! لا يصح الانصراف إلى التيمم إلا عند فقد الماء, إذاً هذا الماء لا يجزئ في الوضوء لذلك انصرف ابن عمر في الفتوى إلى التيمم, قال عبدالله بن عمرو :[لَا يَجْزِئ مِنْهُ الْوُضُوءُ وَلَا الْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ وَالتَّيَمُّم أَعْجَبُ إِلَيَّ] وعلل ذلك بأن تحته ناراً, قال ابن المنذر: [وَرُوِّينَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ قَالَ: إِذَا ألجئتَ إِلَى الْبَحْرِ فَتَوَضَّأْ مِنْهُ] يعني عند الضرورة فقط, يعني كأنه في نفسه منه شيء, قال ابن المنذر: [وَفِي قَوْلِهِ {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96] دَلِيلٌ عَلَى طَهَارَةِ مَاءِ الْبَحْرِ] انتهى كلام ابن المنذر.

    هذا فقه السلف وهذه طريقة أهل الحديث مع المسائل العلمية, تعلّموا من ابن المنذر وكذلك من الترمذي رحمه الله وانظروا كيف, هذه طريقة أهل  الحديث.

    ذكر ابن المنذر أولاً خلاف الصحابة ثم التابعين ثم أتباعهم من أهل الحديث خاصة ثم ذكر القول الراجح وأدلة ترجيحه, ويذكر أيضاً القول المخالف ومن قال به وحجتهم في ذلك.

    وقال ابن قدامة في "المغني" رداً على حجة عبدالله بن عمرو, قال: [وَقَوْلُهُمْ: هُوَ نَارٌ, إنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ نَارٌ فِي الْحَالِ] يعني هو الآن تذهب تنظر إليه تراه ناراً, قال: [هُوَ خِلَافُ الْحِسِّ] لكن نحن الذين نراه لا نراه ناراً نراه ماءً [وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ يَصِيرُ نَارًا، لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ من الْوُضُوءَ بِهِ في حَالِ كَوْنِهِ مَاءً] انتهى

    يعني كونه ناراً في المستقبل لما تقوم الساعة مثلاً, أو أن في بطنه ناراً لكنها غير ظاهرة هذا كله لا يمنع من الوضوء به لأنه هو الآن ماء فنحن نتوضأ من الماء, إذاً لا يصح القول بعدم الوضوء أو الغسل منه.

    المسألة الثانية: حِلُّ ميتة البحر:

    معلوم أن الميتة محرّمة لا يجوز أكلها لقوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة}, ولكن ميتة البحر جائزة بهذا الحديث وبقوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه}, قال ابن عباس وغيره: [ما لفظ من ميتته] يعني ما ألقاه البحر من ميتة, هذا معنى: {وطعامه}.

    قال ابن قدامة رحمه الله في "المغني": [وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ السَّمَكَ وَغَيْرَهُ مِنْ ذَوَاتِ الْمَاءِ الَّتِي لَا تَعِيشُ إلَّا فِيهِ] حيوانات البحر التي تعيش في البحر فقط, قال: [إذَا مَاتَتْ فَهِيَ حَلَالٌ، سَوَاءٌ مَاتَتْ بِسَبَبٍ أَوْ غَيْرِ سَبَبٍ] بغض النظر, المهم أنها من حيوانات البحر وأنها ماتت [لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» قَالَ أَحْمَدُ: هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ حَدِيثٍ] الظاهر من كلام أحمد هذا أنه يصحح الحديث هو نفسه أيضاً [وَأَمَّا مَا مَاتَ بِسَبَبٍ، مِثْلُ أَنْ صَادَهُ إنْسَانٌ، أَوْ نَبَذَهُ الْبَحْرُ، أَوْ جَزَرَ عَنْهُ] يعني انحسر عنه البحر [فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى إبَاحَتِهِ ]

    إذاً لا خلاف في أن حيوان البحر إذا صاده الإنسان أو ألقاه البحر على الشاطئ مثلاً أو انحسر الماء عنه يعني انكشف, قال هذا كله محل اتفاق بين العلماء في أنه جائز

    لكن حصل بينهم خلاف في مسألة, ما هي؟ قال ابن قدامة: [وَكَذَلِكَ مَا حُبِسَ فِي الْمَاءِ بِحَظِيرَةٍ حَتَّى يَمُوتَ، فَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي حِلِّهِ. قَالَ أَحْمَدُ: -هذا هو محل الخلاف- الطَّافِي يُؤْكَلُ] إذاً الخلاف في الطافي [وَمَا جَزَرَ عَنْهُ الْمَاءُ أَجْوَدُ، وَالسَّمَكُ الَّذِي نَبَذَهُ الْبَحْرُ لَمْ يَخْتَلِفْ النَّاسُ فِيهِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الطَّافِي]

    تعرفون ما معنى الطافي ؟ سمكة تموت وتظهر على وجه البحر فوق, هذا معنى الطافي.

    قال: [وَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ] يعني الإمام أحمد لا يرى بأساً به وإن كان حصل فيه خلاف [وَمِمَّنْ أَبَاحَ الطَّافِيَ مِنْ السَّمَكِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَأَبُو أَيُّوبَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا] يعني من الصحابة [وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ -من أتباع التابعين وهو من الأئمة الأربعة- وَالشَّافِعِيُّ. وَمِمَّنْ أَبَاحَ مَا وُجِدَ مِنْ الْحِيتَانِ عَطَاءٌ، وَمَكْحُولٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ. وَكَرِهَ الطَّافِيَ جَابِرٌ، وَطَاوُوسٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ] يعني من الصحابة ومن التابعين وأصحاب الرأي الذين هم أصحاب  أبي حنيفة يكرهون الطافي, هذا هو الخلاف الحاصل بين أهل العلم  في هذه المسألة, قال: [لِأَنَّ جَابِرًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا أَلْقَى الْبَحْرُ، أَوْ جَزَرَ عَنْهُ، فَكُلُوهُ، وَمَا مَاتَ فِيهِ وَطَفَا، فَلَا تَأْكُلُوهُ»]

    هذه حجّة الذين كرهوا الطافي بالذات, هذا الحديث أخرجه أبو داود وهو حديث ضعيف لا يُعتمَد عليه, الحديث الذي معنا صحيح, إذاً المذهب القوي هو مذهب أبي بكر الصديق ومن تبعه على ذلك, وأما مذهب جابر ومن تبعه فهو ضعيف لأن الحديث الذي يعتمدون عليه ضعيف

    قال ابن قدامة: [وَلَنَا] هذه عادة ابن قدامة في الكلام, لما يذكر المسألة ويذكر الخلاف فيها ويذكر أدلة كل طرف ثم يرجح هو ويذكر سبب ترجيحه, دليله, ثم يرد على دليل المخالف, هذه طريقة ابن قدامة, وهي أيضاً طريقة أهل الحديث

    قال: [ولنا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَعَامُهُ مَا مَاتَ فِيهِ] يعني بغض النظر سواء كان طافياً أو ألقاه البحر [وَأَيْضًا الْحَدِيثُ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه: الطَّافِي حَلَالٌ ] ذكره البخاري تعليقاً [وأيضاً الحديث الذي قدمناه , قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : الطافي حلال, وَلِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ فِي الْبَرِّ أُبِيحَ، فَإِذَا مَاتَ فِي الْبَحْرِ أُبِيحَ، كَالْجَرَادِ] هذا من باب القياس [فَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ، فَإِنَّمَا هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ] يعني حديث جابر لا يصح مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو من قول جابر [كَذَلِكَ قَالَ أَبُو دَاوُد: رَوَاهُ الثِّقَاتُ فَأَوْقَفُوهُ عَلَى جَابِرٍ، وَقَدْ أُسْنِدَ مِنْ وَجْهٍ ضَعِيفٍ] أسند يعني رُفع من وجه ضعيف , رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم والصحيح الوقف, قال: [وَإِنْ صَحَّ فَنَحْمِلُهُ عَلَى نَهْيِ الْكَرَاهَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَاتَ رَسَا فِي أَسْفَلِهِ، فَإِذَا أَنْتَنَ طَفَا، فَكَرِهَهُ لِنَتْنِهِ، لَا لِتَحْرِيمِهِ] هذا توجيه الحديث على التسليم بصحته فيحمل على الكراهة لأنه مخالف لحديث دل على الإباحة فالجمع بينهما بالطريقة التي ذكرها.

    هذه طريقة أهل العلم في التعامل مع  المسائل التي يحصل فيها نزاع بينهم, وبهذا يكون الترجيح, الترجيح عند أهل الحديث يكون بالدليل الشرعي الصحيح لا لمناهج فاسدة يبحثون فيها عن التيسير وما شابه من طرق باطلة فاسدة حصلت مؤخراً.

    هذا ما يتعلق بفقه الحديث.

    فوائد الحديث:

    - الفائدة الأولى: جواز ركوب البحر لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر السائل على ركوبه البحر ولم ينكر عليه ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة, وكل ما ورد من أحاديث تدل على عدم جواز  ركوب البحر فهي ضعيفة, والله تبارك  وتعالى امتن على خلقه بأن سخر لهم الفلك تجري في البحر بما ينفع الناس, فلا يصح أن يمتن الله سبحانه وتعالى عليهم بشيء يحرمه عليهم أبداً, فإذاً الصحيح جواز ركوب البحر, والأحاديث التي وردت في النهي عن ركوب البحر لا يصح منها شيء.

    - الفائدة الثانية: في الحديث الأخذ بالأسباب وأنه لا ينافي التوكل, وهذا أُخذ من قولهم: (ونحمل معنا القليل من الماء) أي للشرب, والأدلة كثيرة على وجوب الأخذ بالأسباب في الجملة وعدم جواز الإعراض عنها مع عدم الاعتماد عليها, بل الاعتماد على الله تبارك وتعالى, واعتقاد أنها تؤثر بجعل الله لها مؤثرة وأن الأمر لله أولاً وآخراً.

    - الفائدة الثالثة: فيه جواز الوضوء والغسل بماء البحر كما تقدم, وينقلون عن الشافعي أنه قال: [هذا الحديث نصف علم الطهارة]

    - الفائدة الرابعة: فيه تفسير معنى الطَّهور وأنه المطهر لغيره مع كونه طاهراً في نفسه, لأن الرجل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوضوء به فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (هو الطهور) إذاً فيه رد على من خالف في هذه المسألة وزعم أن الطهور فقط أنه طاهر ليس بمطهر أو لا يلزم أن يكون مطهراً

    - الفائدة الخامسة: فيه أن الماء المتغير بما يتعذر صونه عنه طهور, لأن ماء البحر تغير طعمه بالملح الذي خالطه, لكنه لا ينفك عنه ومثله الماء الذي خالطته الطحالب أو خالطته الأتربة وما شابه

    - الفائدة السادسة: ميتة البحر حلال, والميتة: ما خرجت روحه من غير ذكاة, سواء ألقاها البحر أو طافت على وجهه, والطافي هو الذي يموت في البحر بلا سبب, كلها داخلة في لفظ هذا الحديث, هكذا فسّروا الطافي: هو الذي يموت في البحر بلا سبب, لا يلفظه البحر, يصعد على وجه البحر, هذه كلها سواء ألقاه البحر أو طفا أو أي شيء, المهم أنه من حيوان البحر ومات, فهذا يجوز أكله, لا يستثنى من ذلك شيء على الصحيح.

    وهذا  القول هو قول الإمام مالك والشافعي رحمهما الله.

    والبعض استثنى بعض الأمور واستدل بأدلة لا تقوم حقيقةً, ضعيفة.

    - الفائدة السابعة: يستحب للعالم المفتي إذا سئل عن مسألة وعلم أن السائل بحاجة إلى أمر آخر يجهله أن يبين له ذلك, وهذا مأخوذ من زيادة النبي صلى الله عليه وسلم في الجواب على السؤال, السائل سأل فقط عن الوضوء بماء البحر فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم عن سؤاله وزاده بيان حكم أكل ميتته لأنه إذا خفي عليه الوضوء بماء البحر فغالباً يكون قد خفي عليه حكم الأكل من ميتة البحر

    - الفائدة الثامنة: قال أهل العلم فيه فائدة: أن من خاف على نفسه العطش فإنه يمسك الماء عنده ويتيمم وذلك لأن سؤالهم يشعر بأن من معه ماء يسير لا يتوضأ به وهو يخشى العطش على نفسه وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك  ولم يردهم عن اعتقادهم, هذا ما ذكره أهل العلم, أظن الكلام هذا لابن رجب, على كلٍّ هذه المسألة في ذاتها مجمع عليها لا خلاف فيها أن الماء إذا لم يكن معك إلا ماء قليل للشرب فقط وتخشى على نفسك العطش أنك تتيمم ولا تستعمل الماء وتبقيه للشرب

     

    هذا ما عندي في هذا الموضوع, والله أعلم, ونكتفي بهذا القدر

     

    سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت, أستغفرك وأتوب إليك.

جميع الحقوق متاحة بشرط العزو للموقع © 2024 موقع معهد الدين القيم