شرح الحديث الثاني من بلوغ المرام


  • الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين, أما بعد:

    فمعنا اليوم الحديث الثاني من أحاديث بلوغ المرام, ما زلنا في باب المياه من كتاب الطهارة.

    قال المؤلف رحمه الله: (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ». أَخْرَجَهُ الثَّلَاثَةُ وَصَحَّحَهُ أَحْمَدُ) هذا الحديث يُعرف عند أهل العلم بحديث بئر بُضاعة.

    أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد في مسنده عن أبي أسامة, قال الإمام أحمد: [حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ مَرَّةً: عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ، وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ وَالنَّتْنُ، وَلُحُومُ الْكِلَابِ؟ قَالَ: "الْمَاءُ طَهُورٌ، لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ"] ومن طريق أبي أسامة أخرجه جمع كبير من أهل الحديث.

    أما الإسناد:

    فأبو أسامة هو حماد بن أسامة القرشي الكوفي, أخرج له الجماعة, وروايته عن الوليد عند الجماعة, ثقة, ذكر ابن سعد أنه يدلّس ويبيِّن تدليسه, يعني يوضّح فلا يبقى إشكال في تدليسه فتدليسه لا يضر إن شاء الله , ومع هذا فقد صرح هنا عندنا في هذا الحديث بالتحديث.

    أما شيخه الوليد بن كثير فهو المخزومي مولاهم, أبو محمد المدني ثم الكوفي, ثقة, كان إباضياً, والإباضية فرقة من الخوارج موجودون اليوم, أخرج له الجماعة, صرّح بالتحديث عن شيخه.

    محمد بن كعب القُرظي: أبو حمزة المدني, هذا هو شيخه, كان قد نزل الكوفة مدة وهو ثقة عالم كثير الحديث, ورع وعالم بتفسير القرآن, سمع من علي ومعاوية وابن مسعود وغيرهم, أخرج له الجماعة.

    وأما عبيدالله بن عبدالله أو ابن عبدالرحمن بن رافع بن خديج فهو الأنصاري ثم العدَويّ, مختلَفٌ في اسمه, ذكره الحافظ في "تهذيب التهذيب", قال ابن منده: مجهول, وقال ابن القطّان الفاسي: لا يُعرَف له حال ولا عين.

    وبعبيدالله هذا أعلّ الحديث من أعله من أهل العلم, ضعّفوه وجعلوا علته عبيد الله هذا فطعنوا فيه بالجهالة.

    والذين صححوا الحديث منهم من أجاب بجواب, ومنهم من أجاب بجواب آخر:

    الفرقة الأولى قالوا: تصحيح الإمام أحمد ويحيى بن معين للحديث توثيقٌ منهما له, الإمام أحمد ويحيى بن معين ثبت عنهما أنهما صححا الحديث, فقالوا بما أن الإمام أحمد ويحيى بن معين قد صححا الحديث إذاً فهو توثيق منهما لعبيد الله فلا يكون ذلك مجهولاً, تزول عنه الجهالة بهذا, وممن أجاب بهذا الجواب ابن الملقن

    وأما الفرقة الثانية فقالوا: يصح بما له من طرق وشواهد, ولعل الإمام أحمد ويحيى بن معين صححاه لهذا, وممن أجاب بهذا الشيخ الألباني رحمه الله.

    وعلى كل حال: سواء كان تصحيحهما له بالشواهد والمتابعات أو بتوثيقهم لعبيد الله فهو صحيح عندهما فإما أن يصح لثقة عبيدالله نفسه أو لما له من شواهد ومتابعات.

    والذي يظهر أن الحديث صحيح إن شاء الله.

    الحديث رواه محمد بن إسحاق عن سليط بن أيوب عن عبيد الله بن عبدالرحمن بن رافع الأنصاري ثم العدوي عن أبي سعيد الخدري به, أخرجه أبو داود وغيره, هذه رواية محمد بن إسحاق, وفيها متابعة لكن أيضاً المخرج واحد عبيد الله نفسه.

    واختُلِف في إسناد حديث محمد بن إسحاق خرّجه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود.

    وقال الترمذي رحمه الله بعد ذكر حديث أبي أسامة: [هذا حديث حسن] وفي نسخة قال: [هذا حديث صحيح]

    طبعاً سنن الترمذي تختلف نسخه فتجد كلاماً في نسخة وتجده في نسخة أخرى مخالفاً لما هو في النسخة الأولى, فلذلك أنت بحاجة إلى نسخة معتمدة في النقل عن الترمذي, فتارة تجدهم ينقلون عن الترمذي أنه قال فيه حسن, وتارة أنه قال فيه حسن صحيح, وتارة قال فيه حسن غريب, فتختلف النسخ, لذلك ينبغي أن تحرص على اقتناء نسخة جيدة.

    وهذا ليس في الترمذي وحده بل في جميع كتب السنن, لا بد من النسخ الجيدة, لكن مثل سنن الترمذي التي يحصل فيها الخلاف كثيراً بسبب اختلاف النسخ هذا لا بد أن يكون عندك نسخة جيدة من الكتاب.

    فالترمذي قال: [هذا حديث حسن] هكذا في بعض النسخ وفي نسخة أخرى قال: [صحيح] قال: [وقد جود أبو أسامة هذا الحديث فلم يرو أحد حديث أبي سعيد في بئر بضاعة أحسن مما روى أبو أسامة] هذا معنى التجويد هنا, رواه بشكل جيد [وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي سعيد] هذا يقوله الترمذي رحمه الله, يعني له متابعات [وفي الباب عن ابن عباس وعائشة] يعني له شواهد, انتهى كلام الترمذي.

    وأما الدارقطني فقال: [وأحسنها إسناداً حديث الوليد بن كثير عن محمد بن كعب القرظي عن عبيدالله بن عبدالله بن رافع عن أبي سعيد, وحديث ابن إسحاق عن عبدالله بن سلمة الماجَشون عن عبيد الله به] انتهى كلام الدارقطني

    قال: هذان الإسنادان أحسن أسانيد هذا الحديث؛ رواية محمد بن إسحاق  ومن رواية محمد بن كعب القرظي, الوليد بن كثير عن محمد بن كعب القرظي

    والحديث له شاهد من حديث عائشة ومن حديث سهل بن سعد أيضاً وفي كلا الحديثين ضعف ولكن الحديث صحيح بالجملة كما قال أحمد وابن معين وغيرهما.

    وأما فقه الحديث وغريبُه:

    نذكر بعض الكلمات الغريبة في أصل الحديث وإن كانت هذه الكلمات لم يذكرها الحافظ ابن حجر لأنه لم يذكر الحديث كاملاً إنما اقتطع منه لفظ النبي صلى الله عليه وسلم وموضع الشاهد الذي أراده, نحن ذكرنا الحديث كاملاً من رواية الإمام أحمد رحمه الله:

    بُضاعة: عند أهل اللغة يضمون الباء ويكسرونها, يعني يقولون: بُضاعة وبِضاعة, والمحفوظ في الحديث هو الضم, بئر بُضاعة, والضم أشهر وأفصح عند أهل اللغة

    وقيل: بُضاعة هذا هو اسم لصاحب البئر, وقيل :اسم لموضع البئر

    وأما الحِيَض: فَجَمعُ حِيْضَة, مثل: سدر وسدرة, والمراد بها: خرقة الحيض التي تضعها المرأة في محل الحيض عند خروج الدم, تحتشي بها وقت الحيض, يعني مثل حفاظة النساء اليوم

    والنَّتْن: اسمٌ للشيء الذي له رائحة كريهة

    قال أهل العلم: لم يكن إلقاء المذكورات في الحديث من النجاسات في الماء -في البئر يعني- عن تعمد من المسلمين ولا من غير المسلمين, فعادة الناس تنزيه المياه التي ينتفعون بها عن ذلك, ولكنهم كانوا يلقون النجاسات في الأفنية فتأخذها السيول والرياح فتلقيها في البئر, لكن الخلاصة في الموضوع أن هذه النجاسات تسقط في البئر, هذا هو محل الشاهد.

    فلما رأى بعض الصحابة ذلك ارتابوا من هذا الأمر فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ماء هذه البئر لمخالطة النجاسات للماء

    فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء)

    وجاء في سنن أبي داود بيان قدر الماء الذي كان في البئر, فقال أبو داود: [سمعتُ قتيبةَ بنَ سعيد] وهو أحد شيوخ البخاري [يقول: سألت قَيِّمَ بئرِ بُضاعةَ] قيم البئر: يعني الذي يقوم على شأنها, يحرسها ويحفظها, يرعاها [عن عُمقها، قال: أكثَرُ ما يكونُ فيها الماءُ إلى العانةِ] العانة هي المنطقة التي فوق الذَّكَر مباشرة [قلتُ: فإذا نقصَ؟] في حال نقصان الماء [قال: دونَ العَورَة.] يعني تحت الذكر, قال أبو داود: [وقدَّرتُ بئرَ بُضاعةَ برِدائي مَدَدتُه عليها، ثمَّ ذَرَعتُه، فإذا هي ستَّة أذرُع، وسألتُ الذي فتحَ لي البستانَ فأدخَلَني إليه: هل غُيِّرَ بنيانها عمَّا كانت عليه؟ فقال: لا، ورأيتُ فيها ماءً مُتغيِّر اللَّون ] انتهى

    على ذلك يكون ارتفاع الماء في هذه البئر تقريباً متر, والبئر نفسها تقريباً ارتفاعها ثلاثة أمتار

    - يستفاد من هذا الحديث أن الماء طاهر مطهر, لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الماء طهور) والطهور كما تقدم معنا في الدرس الماضي هو الطاهر المطهر

    - (لا ينجسه شيء): فعموم الحديث يدل على أن الماء سواء كان كثيراً أم قليلاً متحركاً أو غير متحرك دون القلتين أو أكثر لا ينجس بملاقاة النجاسة.

    هذا العموم, بعد ذلك من ادعى تخصيص هذا العموم بأمر يجب عليه أن يقيم الدليل الصحيح على ذلك

    - خُصّ عموم هذا الحديث بالإجماع على أن الماء إذا وقعت فيه نجاسة وغيّرت أحد أوصافه الثلاثة: الطعم أو الرائحة أو اللون أنه نجس سواء كان قليلاً أو كثيراً.

    طبعاً بعض أهل العلم أراد أن يخصصه بمخصصات أخرى سيأتي الحديث عنها إن شاء الله, مثل حديث القلتين مثلاً قالوا حديث القلتين مخصص لهذا, لكن حديث القلتين نفسه سيأتي إن شاء الله الحديث عنه وهل يصح التخصيص به أم لا

    - والمسألة المهمة عندنا هنا الآن التي نأخذها من هذا الحديث وقد حصل نزاع بين أهل العلم فيها, وهي من أهم مسائل المياه هي: الماء الذي خالطته نجاسة ولم تغير أحد أوصافه الثلاثة.

    الآن القسم الأول: الماء الذي خالطته نجاسة, هو هذا موضوعنا نحن أصلاً, هذا الماء الذي خالطته نجاسة ينقسم إلى قسمين: قسم تحدث النجاسة فيه تغيّراً في الطعم أو الريح أو اللون فهذا محل إجماع بأنه يكون نجساً, الأمر منتهٍ فيه, نقل الإجماع غير واحد.

    القسم الثاني: وهو مسألتنا هنا وهو محل النزاع, الماء إذا سقطت فيه نجاسة ولم تغيّر أحد أوصافه الثلاثة, هل يعتبر نجساً أم طاهراً؟ وإذا كان طاهراً هل يجوز التطهر به أم لا؟ اختلف العلماء في ذلك على أقوال:

    الخلاف الأول في الموضوع: اختلفوا على قولين بدايةً:

    منهم من قال أنه طاهر مطهر لا فرق بين قليل وكثير, كله واحد, كله طاهر, إذا سقطت في الماء نجاسة ولم تغير أحد أوصافه الثلاثة فهو طاهر, فقط, انتهى الموضوع عند هؤلاء, وهذا القول هو الصحيح الراجح , وهو الذي عليه جمع من السلف رضي الله عنهم ومن أئمة الهدى وهو الذي تبناه الإمام مالك رحمه الله وهو قولٌ أيضاً عند الإمام أحمد

    القول الثاني: قول من يفرق بين قليل الماء وكثيره, فيقولون: أما الكثير فهو طاهر مطهر وأما القليل فلا, ويستدلون بأدلة سيأتي إن شاء الله ذكرها في موطنها, لكن هؤلاء اختلفوا بعد ذلك: ما هو الضابط في القلة والكثرة؟ فبعضهم مثلاً كالشافعية قالوا: الضابط في ذلك القلتين, الشافعية والحنابلة أيضاً, والبعض كالأحناف مثلاً قالوا :لا, الضابط أنك إذا حركت طرف الماء لم يتحرك طرفه الآخر أو تحرك, إذا تحرك فهو قليل ينجس وإذا لم يتحرك فهو كثير لا ينجس, هذه خلاصة موضوع الخلاف.

    إذاً صار عندنا الإمام مالك وقول عند الإمام أحمد أن الماء الذي وقعت فيه نجاسة ولم تغير أحد أوصافه الثلاثة أنه طاهر مطهر, منتهي الأمر.

    أما أبو حنيفة والشافعي وقول آخر للإمام أحمد فقسموا الماء إلى قليل ينجس بملاقاة النجاسة وإنلم يتغير وكثير لا ينجس إلا بالتغير, هذه الأقوال بشكل عاجل.

    وقد ذكر ابن المنذر رحمه الله في "الأوسط" في (1/368) طبعة دار الفلاح, ذكر أقوال السلف في هذه المسألة واختلافهم فيها ونقل عن بعض أئمة الحديث كيحيى بن سعيد القطان وعبدالرحمن بن مهدي وجمع من الصحابة والتابعين أنهم قالوا بالقول الذي ذهب إليه الإمام مالك رحمه الله, وذكر أدلتهم التي اعتمدوها غير الحديث الذي معنا.

    وكذلك فعل ابن حزم في "المحلى", قال ابن حزم: [وَمِمَّنْ روي عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ ِبمِثْلِ قَوْلِنَا - إنَّ الْمَاءَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ - عَائِشَةُ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمَيْمُونَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ جَمِيعِهِمْ] هؤلاء صحابة ثم بدأ بالتابعين فقال: [وَالْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ أَخُوهُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعِكْرِمَةُ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ وَغَيْرُهُمْ، فَإِنْ كَانَ التَّقْلِيدُ جَائِزًا، فَتَقْلِيدُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- أَوْلَى مِنْ تَقْلِيدِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ] انتهى.

    ومن أراد زيادة الاطلاع على الأقوال وذكر أدلتها ففي "المحلى" وفي "الأوسط" لابن المنذر كفاية في ذلك فليراجعها, "الأوسط" (1/863) وفي "المحلى" (1/168) والله أعلم ونكتفي بهذا القدر اليوم والحمد لله, سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت, أستغفرك وأتوب إليك.

جميع الحقوق متاحة بشرط العزو للموقع © 2024 موقع معهد الدين القيم