• نوع الفتوى: عقيدة
  • عنوان الفتوى: هل كل قضاء يقضيه الله يكون محبوباً له؟
  • رقم الفتوى: 2318
  • تاريخ الإضافة: 3 شوال 1440
  • السؤال
    نعرف شيخنا أن الله قضى قضاء شرعياً وقضاء كونياً، ولا يلزم أن يكون القضاء الكوني مما يحبه الله؛ فهلا تكرمتم بالبيان؛ كيف يقضي الله قضاء لا يحبه؟
  • الاجابة

    الأشياء التي تحصل بقدر الله على هذا الكون ويخلقها الله على قسمين قسم محبوب له؛ كالأنبياء والرسل والملائكة والإيمان وما شابه، وقسم مسخوط مبغوض له ولكن يترتب عليه ويلزم منه ما هو محبوب له؛ كإبليس والكفار والكفر والفسوق والعصيان يترتب عليها مصالح وخيرات كثيرة، هذه المصالح والخيرات محبوبة له تبارك وتعالى.

    وإن كنت أنت ترى القسم الثاني فيه شر وفساد؛ إلا أنه في الحقيقة من ورائه مصالح وخير عظيم، يفوق شره، لذلك قضى الله كونه؛ لأنه يؤدي إلى حصول المحبوب، فهو وإن كان ليس محبوباً لله إلا أنه يترتب عليه ويلزم من وجوده ما هو محبوب له، وأما شر محض لا خير فيه مطلقاً فهذا شيء غير موجود في الكون، فلم يخلق الله تبارك وتعالى شيئاً كهذا. والله أعلم 

    قال ابن القيم في مدارج السالكين(1/ 266): ومذهب سلف الأمة وأئمتها أنه مسخوط للرب، مكروه له قدراً وشرعاً، مع أنه وجد بمشيئته وقضائه، فإنه يخلق ما يحب وما يكره، وهذا كما أن الأعيان كلها خلقه، وفيها ما يبغضه ويكرهه - كإبليس وجنوده، وسائر الأعيان الخبيثة - وفيها ما يحبه ويرضاه - كأنبيائه ورسله، وملائكته وأوليائه - وهكذا الأفعال كلها منها ما هو محبوب له وما هو مكروه له، خلقه لحكمة له في خلق ما يكره ويبغض كالأعيان، وقال تعالى {والله لا يحب الفساد} [البقرة: 205] مع أنه بمشيئته وقضائه وقدره، وقال تعالى {إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم} [الزمر: 7] فالكفر والشكر واقعان بمشيئته وقدره، وأحدهما محبوب له مرض، والآخر مبغوض له مسخوط.
    وكذلك قوله عقيب ما نهى عنه من الشرك والظلم والفواحش والكبر {كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها} [الإسراء: 38] فهو مكروه له، مع وقوعه بمشيئته وقضائه وقدره. انتهى 

    وقال ابن تيمية في منهاج السنة(5/ 412): والمخلوقات مرادة إرادة خلقية كونية، وهذه الإرادة متضمنة لما وقع دون ما لم يقع، وقد يكون الشيء مراداً له غير محبوب، بل أراده لإفضائه إلى وجود ما هو محبوب له، أو لكونه شرطاً في وجود ما هو محبوب له. انتهى 

    وقد بين هذا المعنى ابن القيم بياناً شافياً في شفاء العليل.

    مما قاله فيه (ص239): فهو سبحانه لكمال محبته لأسمائه وصفاته اقتضى حمده وحكمته أن يخلق خلقاً يظهر فيهم أحكامها وآثارها، فلمحبته للعفو خلق من يحسن العفو عنه، ولمحبته للمغفرة خلق من يغفر له ويحلم عنه ويصبر عليه ولا يعاجله، بل يكون يحب أمانه وإمهاله، ولمحبته لعدله وحكمته خلق من يظهر فيهم عدله وحكمته، ولمحبته للجود والإحسان والبر، خلق من يعامله بالإساءة والعصيان، وهو سبحانه يعامله بالمغفرة والإحسان، فلولا خلق من يجري على أيديهم أنواع المعاصي والمخالفات لفاتت هذه الحكم والمصالح وأضعافها وأضعاف أضعافها، فتبارك الله رب العالمين وأحكم الحاكمين ذو الحكمة البالغة والنعم السابغة، الذي وصلت حكمته إلى حيث وصلت قدرته، وله في كل شيء حكمة باهرة، كما أن له فيه قدرة قاهرة وهدايات، إنما ذكرنا منه قطرة من بحر وإلا فعقول البشر أعجز وأضعف وأقصر من أن تحيط بكمال حكمته في شيء من خلقه، فكم حصل بسبب هذا المخلوق البغيض للرب المسخوط له من محبوب له تبارك وتعالى يتصل في حبه ما حصل به من مكروهه، والحكيم الباهر الحكمة هو الذي يحصل أحب الأمرين إليه باحتمال المكروه الذي يبغضه ويسخطه إذا كان طريقاً إلى حصول ذلك المحبوب، ووجود الملزوم بدون لازمه محال، فإن يكن قد حصل بعدو الله إبليس من السرور والمعاصي ما حصل فكم حصل بسبب وجوده ووجود جنوده من طاعة هي أحب إلى الله وأرضى له من جهاد في سبيله ومخالفة هوى النفس وشهوتها له، ويحتمل المشاق والمكاره في محبته ومرضاته، وأحب شيء للحبيب أن يرى محبه يتحمل لأجله من الأذى والوصب ما يصدق محبته...إلخ.

    وقال (ص236): قولهم أي حكمة في خلق إبليس وجنوده؟!

    ففي ذلك من الحكم مالا يحيط بتفصيله إلا الله، فمنها: أن يكمل لأنبيائه وأوليائه مراتب العبودية بمجاهدة عدو الله وحزبه، ومخالفته، ومراغمته في الله، وإغاظته وإغاظة أوليائه، والاستعاذة به منه، والإلجاء إليه أن يعيذهم من شره وكيده، فيترتب لهم على ذلك من المصالح الدنيوية والأخروية ما لم يحصل بدونه، وقدمنا أن الموقوف على الشيء لا يحصل بدونه.

    ومنها: خوف الملائكة والمؤمنين من ذنبهم بعد ما شاهدوا من حال إبليس ما شاهدوه، وسقوطه من المرتبة الملكية إلى المنزلة الإبليسية؛ يكون أقوى وأتم، ولا ريب أن الملائكة لما شاهدوا ذلك حصلت لهم عبودية أخرى للرب تعالى، وخضوع آخر، وخوف آخر؛ كما هو المشاهد من حال عبيد الملك إذا رأوه قد أهان أحدهم الإهانة التي بلغت منه كل مبلغ وهم يشاهدونه؛ فلا ريب أن خوفهم وحذرهم يكون أشد.

    ومنها: أنه سبحانه جعله عبرة لمن خالف أمره وتكبر عن طاعته وأصر على معصيته، كما جعل ذنب أبي البشر عبرة لمن ارتكب نهيه أو عصى أمره، ثم تاب وندم ورجع إلى ربه، فابتلى أبوي الجن والإنس بالذنب، وجعل هذا الأب عبرة لمن أصر وأقام على ذنبه، وهذا الأب عبرة لمن تاب ورجع إلى ربه، فلله كم في ضمن ذلك من الحكم الباهرة والآيات الظاهرة.

    ومنها: أنه محك امتحن الله به خلقه ليتبين به خبيثهم من طيبهم، فإنه سبحانه خلق النوع الإنساني من الأرض وفيها السهل والحزن والطيب والخبيث، فلا بد أن يظهر فيهم ما كان في مادتهم، كما في الحديث الذي رواه الترمذي مرفوعاً:" أن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض؛ فجاء بنو آدم على مثل ذلك، منهم الطيب والخبيث، والسهل والحزن..." وغير ذلك، فما كان في المادة الأصلية فهو كائن في المخلوق منها، فاقتضت الحكمة الإلهية إخراجه وظهوره، فلا بد إذاً من سبب يظهر ذلك، وكان إبليس مِحكاً يميز به الطيب من الخبيث، كما جعل أنبيائه ورسله محكاً لذلك التمييز ، قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} فأرسله إلى المكلفين وفيهم الطيب والخبيث فانضاف الطيب إلى الطيب والخبيث إلى الخبيث، واقتضت حكمته البالغة أن خلطهم في دار الامتحان، فإذا صاروا إلى دار القرار يميز بينهم، وجعل لهؤلاء داراً على حدة، ولهؤلاء داراً على حدة؛ حكمة بالغة، وقدرة قاهرة.

    ومنها: أن يظهر كمال قدرته في خلق مثل جبريل والملائكة ،وإبليس والشياطين، وذلك من أعظم آيات قدرته ومشيئته وسلطانه، فإنه خالق الأضداد؛ كالسماء والأرض، والضياء والظلام، والجنة والنار، والماء والنار، والحر والبرد، والطيب والخبيث.

    ومنها: أن خلق أحد الضدين من كمال حسن ضده؛ فإن الضد إنما يظهر حسنه بضده، فلولا القبيح لم تعرف فضيلة الجميل، ولولا الفقر لم يعرف قدر الغنى، كما تقدم بيانه قريباً.

    ومنها: أنه سبحانه يحب أن يشكر بحقيقة الشكر وأنواعه، ولا ريب أن أولياءه نالوا بوجود عدو الله إبليس وجنوده وامتحانهم به من أنواع شكره ما لم يكن ليحصل لهم بدونه، فكم بين شكر آدم وهو في الجنة قبل أن يخرج منها وبين شكره بعد أن ابتلي بعدوه، ثم اجتباه ربه وتاب عليه وقبله....إلخ هذا بعض كلامه وله تتمة. والله أعلم

جميع الحقوق متاحة بشرط العزو للموقع © 2024 موقع معهد الدين القيم