شرح الحديث الثالث من بلوغ المرام


  • الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله, وبعد:

    معنا اليوم الحديث الثالث, قال المؤلف رحمه الله: (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمَاءَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ، إِلَّا مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ» أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَضَعَّفَهُ أَبُو حَاتِمٍ, وَلِلْبَيْهَقِيِّ: «الْمَاءُ طَاهر إِلَّا إِنْ تَغَيَّرَ رِيحُهُ، أَوْ طَعْمُهُ، أَوْ لَوْنُهُ; بِنَجَاسَةٍ تَحْدُثُ فِيهِ»)

    هذا الحديث رواه ابن ماجه قال: حدثنا محمود بن خالد والعباس بن الوليد الدمشقيان قالا حدثنا مروان بن محمد قال حدثنا رِشدين قال أنبأنا معاوية بن صالح عن راشد بن سعد عن أبي أمامة الباهلي : فذكره ....

    محمود بن خالد: لا يوجد في الكتب الستة من اسمه محمود بن خالد سوى هذا, لذلك إذا فتحت "التقريب" عرفته مباشرة, لا يشتبه بغيره, وهو محمود بن خالد بن أبي خالد السُّلَميّ, أبو علي الدمشقي, ثقة, وثّقه أبو حاتم والنسائي, أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجه, سمع من شيخه مروان

    وأما العباس بن الوليد فهو ابن صُبْح الخلّال السُّلمي, أبو الفضل الدمشقي, أخرج له ابن ماجه فقط من بين أصحاب الكتب الستة, قال فيه أبو حاتم الرازي: شيخ, وقال أبو داود السجستاني: [كتبتُ عنه كان عالماً بالرجال عالماً بالأخبار, لا أحدث عنه] اهـ, قوله: [لا أحدث عنه] هذه ليست في "تهذيب التهذيب" فتنبّه, ذكرها المِزِّي في تهذيب الكمال وذكرها الذهبي في "الميزان"

    و"ميزان الاعتدال" هو مثل المختصر للكامل لابن عدي, ذكر فيه الضعفاء وغيرهم ممن تُكُلِّمَ فيهم, هذا "ميزان الاعتدال" للذهبي

    "لسان الميزان" للحافظ ابن حجر هو اختصار لهذا الكتاب, حذف منه رجال الكتب الستة, الذهبي وضع كل من تُكُلّم فيه سواء كان من رجال الكتب الستة أو غيرهم, الحافظ ابن حجر في لسان الميزان أخرج رجال الكتب الستة.

    يعني عندما يمر معك رجل من رجال الكتب الستة فلا تبحث عنه في "لسان الميزان", لك أن تبحث عنه في ميزان الاعتدال حتى ترى كلام الذهبي الذي نقله عن أئمة الجرح والتعديل فيه.

    فهذه الزيادة عن أبي داود ذكرها الذهبي وذكرها المزي, لا أدري هل هي ساقطة من نسخ "التقريب" أم سقطت من الحافظ ابن حجر رحمه الله, على كل الظاهر أنه ضعيف فليس فيه توثيق يعتمد.

    قول أبي داود: [كان عالماً بالرجال عالماً بالأخبار] هذا لا يكفي لأن هذا تزكية لعلمه أما عدالته فلا ندري عنها شيئاً وحتى حفظه, لذلك قال الحافظ أبو داود -وهو يعرفه-: لا أحدث عنه, لكن ما السبب؟ هذا جرح لكنه غير مفسر, ولكن كونه لا يوجد تعديل يُعتَمَد عليه في حقه فنكتفي بهذا الجرح لأنه من إمام عالم غالباً لا يجرح إلا بقادح صحيح, خاصة مثل أبي داود؛ رجل منصف معتدل فالغالب على الظن أن حكمه صحيح, على كلٍّ: الرجل هذا وإن كان ضعيفاً ولكنه متابَع.

    مروان بن محمد شيخهما هو ابن حسان الأسدي الدمشقي الطاطري, أخرج له مسلم والأربعة, ثقة, وثقه أبو داود والدارقطني وغيرهما وضعفه من لا يعتد بقوله في هذا الباب وهو ابن قانع وابن حزم.

    ترون -بارك الله  فيكم- عند أهل الحديث بعض العلماء الذين يتكلمون في الرجال لا يُقبل منهم القول في الرجال لأسباب منها: عدم خبرتهم بالرجال, عدم معرفتهم بالرجال, فلذلك -بارك الله فيكم- ليس كل من تكلم في الرجال يقبل كلامه ثم حتى لو كان يقبل كلامه لا بد أن نعرف السبب في حال عارضه تعديل سواء كان التعديل سابقاً أم لاحقاً, إذا عورض الجرح بتعديل إذاً لا بد أن نعرف السبب حتى نعلم أهو حق أم باطل, صحيح أم ليس بصحيح.

    الخطأ يتطرق إلى الجرح إما بسبب نقل خاطئ أو بسبب اعتقاد أن شيئاً يعتبر جارحاً وليس بجارح, يجب التثبت ومعرفة الصواب من الخطأ في هذا الباب.

    مروان بن محمد هذا ثقة سمع من شيخه رِشدين بن سعد.

    وأما رشدين بن سعد والإشكال فيه في هذا الحديث, هو ابن مفلح المَهري المصري أبو الحجاج, أخرج له الترمذي وابن ماجه, ضعيف لسوء حفظه, هو رجل صالح في دينه لكن من حيث الحفظ لا يعتمد عليه, ضعفه أحمد وأبو زرعة وأبو داود والدارقطني وغيرهم, وقال أحمد: ليس يبالي عمن روى لكنه رجلٌ صالحٌ , وقال:  لا بأس به في أحاديث الرقاق , يتساهلون قليلاً في أحاديث الرقاق التي فيها ترهيب وترغيب وما شابه لأنها ليس فيها أحكام شرعية, لا يؤخذ منها أحكام شرعية.

    هناك فرق بين التساهل في أحاديث الترغيب والترهيب وقبولها من مثل رشدين هذا فقط لأنها تشجّع على العمل الصالح وتنهى عن العمل الفاسد فقط أما أن يأتي شخص ويستدل بها بحكم شرعي فهذا فاسد.

    هذا حصل عند المتأخرين, وفهموا حديث الترغيب والترهيب فهماً سقيماً فاسداً, وهذا موجود بكثرة عند المتأخرين, الأفهام  السقيمة والنيّات الفاسدة تجدها بكثرة عند المتأخرين, أما المتقدمون فلا تجد عندهم هذه الأشياء ولا فيهم هذه الأدواء إلا قليل نادر, اعتماد علم السلف راحة للنفس وطمأنينة وأبعد عن الخطأ فهم أتقى لله وأعلم منا وأورع فالحق معهم وهم أقرب إليه منا, وإذا اتفقوا على شيء فهو الحق لا شك فيه.

    وقال حرب: سألت أحمد عنه فضعّفه -أي عن رشدين- وقدمَ ابنَ لهيعة عليه -مع ضعف ابن لهيعة-, القول المعتمد فيه أنه ضعيف يصلح في الشواهد والمتابعات.

    أما معاوية بن صالح فهو ابن حُدَير الحضرمي الحمصي قاضي الأندلس, أخرج له مسلم والأربعة, وثقه جمع وتكلّم البعض في حديثه, والراجح أنه صدوق, أو صدوق له أوهام , يُحتَج بحديثه.

    وأما راشد بن سعد المُقرَئي الحمصي فهو واحد في الكتب الستة بهذا الاسم: راشد بن سعد, أخرج له البخاري تعليقاً وفي الأدب المفرد والأربعة, ثقة كثير الإرسال, وثقه جمع, ضعفه ابن حزم وهو ممن لا يعتد بقوله في هذا الباب, وهل سمع من أبي أمامة أم لا؟ يحتاج هذا إلى تحقق من ذلك, وعلى كل العلماء أعلوه بعلل أخرى كافية في بيان حاله, فلسنا بحاجة إلى أن نصرف فيه بعض الأوقات.

    وأما أبو أمامة الباهلي فصحابي.

    والحديث بهذا الإسناد ضعيف كما ترون, علته ظاهرة: رشدين بن سعد, وهو مع ذلك مخالف لغيره أيضاً فقد رواه غيره موقوفاً ومرسلاً, فالراجح في الحديث هذا إما الوقف أو الإرسال, يعني اتصال السند ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يصح لأن هذا الذي تفرد به رشدين بن سعد وتابعه غيره لكن من الضعفاء أيضاً.

    قال الدارقطني رحمه الله: [لم يرفعه غير رشدين بن سعد عن معاوية بن صالح وليس بالقوي]

    لكن الصحيح أنه قد توبع على رفعه, رفعه أيضاً ثور بن يزيد ولكنه مروي عنه من طريقين ضعيفين, لا يصح منهما شيء, فرفعه لا يصح, رواه الضعفاء مرفوعاً.

    قال الدارقطني: [وخالفه الأحوص بن حكيم] خالف رشدين بن سعد, والأحوص بن حكيم هذا أيضاً ضعيف رواه عن رشدين بن سعد مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم [وقال أبو أسامة : عن الأحوص عن راشد قوله لم يجاوز به راشداً] يعني موقوف على راشد, قال: [وقد ذكرنا القدح في رشدين بن سعد ومعاوية بن صالح] انتهى

    قال أبو حاتم الرازي: [يوصله رشدين بن سعد وليس بالقوي, والصحيح أنه مرسل] انتهى

    وضعّف الحديث أحمد أيضاً وغيره.

    وروي الحديث أيضاً من طريق رشدين عن ثوبان مولى النبي صلى الله عليه وسلم, وكل هذا ضعيف لا يصح منه شيء.

    لعل أفضل طرقه الطريق التي رواها أبو أسامة موقوفة على راشد, على كلٍّ العلماء يصححون المرسل, علماء العلل يصححون المرسل, قال أبو حاتم: [الصحيح أنه مرسل] وكذا أشار إلى ذلك الدارقطني رحمه الله, على كلٍّ نقل النووي في "المجموع" اتفاق المحدثين على تضعيفه, من أراد المزيد فلينظر "البدر المنير" لابن الملقن فقد ذكر طرقه وجمع كلام أهل العلم فيه بما يكفي طالب العلم إن شاء الله, ومن أراد الاطلاع أيضاً على "الضعيفة" للألباني رحمه الله فقد أجاد وأفاد برقم 2644

    فقه الحديث:

    في الحديث السابق -حديث أبي سعيد- عمومٌ, قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الماء طهور لا ينجسه شيء) قد قدمنا الكلام على هذه الجزئية, ثم بعد ذلك بدأ المؤلف بذكر الأحاديث التي تخصص هذا العموم, لأننا ذكرنا أن هذا العموم مخصوص, مخصوص بمعنى هذا الحديث الذي معنا

    على عموم الحديث فإن الماء إذا كان قليلاً, كان كثيراً, الماء المطلق, إذا وقع فيه ما وقع فإنه لا ينجس أبداً, لكن خُصّ بأن النجاسة إذا وقعت فيه وغيرت أحد أوصافه الثلاث ينجس.

    والحديث الذي يدل على هذا –كما ذكرنا- ضعيف لكن نقل العلماء الإجماع عليه, أشار إليه الإمام الشافعي والبيهقي ونقله صراحة ابن المنذر رحمه الله والنووي وغيره, جمعٌ من العلماء نقلوا الاتفاق على هذا الاستثناء المذكور في هذا الحديث, إذاً هذا تخصيص صحيح بالإجماع لا بهذا الحديث, وهذا كافٍ إن شاء الله.

    إذاً فالماء المطلق طاهر مطهر بجميع أحواله إلا إن وقعت فيه نجاسة فغيرت أحد أوصافه الثلاثة:

    الريح: يعني الرائحة التي تدرك بحاسة الشم

    والطعم: الذي يدرك بحاسة الذوق

    واللون: كأن يصير لونه أسوداً من النجاسة, أو يصير لونه أصفراً من النجاسة, وما شابه, يتغير لونه عما خلقه الله عليه من لون شفاف

    فإذا تغير أحد هذه الأوصاف الثلاثة, لا يشترط أن تجتمع, واحد فقط يتغير بوقوع النجاسة في الماء فينجس الماء

    إذاً هذا أول تخصيص صحيح لعموم الحديث المتقدم, حديث أبي سعيد (الماء طهور لا ينجسه شيء) ثم سيذكر لنا المؤلف أيضاً ما خصصه العلماء به من أحاديث أخرى وستأتي معنا إن شاء الله ويأتي معنا فقهها

    نكتفي بها القدر, والحمد لله

    سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت, أستغفرك وأتوب إليك

جميع الحقوق متاحة بشرط العزو للموقع © 2024 موقع معهد الدين القيم