• نوع الفتوى: عقيدة
  • عنوان الفتوى: المحكم والمتشابه
  • رقم الفتوى: 1353
  • تاريخ الإضافة: 4 رجب 1440
  • السؤال
    أشكل عليَّ قول الله تبارك وتعالى في سورة آل عمران: {منه آياتٌ محكماتٌ هُنَّ أم الكتاب وأُخَرُ متشابهات}؛ في المراد بالمحكمات والمتشابهات
  • الاجابة

    آيات القرآن تنقسم إلى قسمين: محكمات ومتشابهات.

    المحكمات: قال الله تعالى فيهن: {هن أم الكتاب}؛ أي: أصل الكتاب؛ فيجب أن يُعتمد عليها في تقرير المعاني، فمحكمات يعني واضحات المعنى والدلالة لا إشكال فيها.

    المتشبهات: يلتبس معناها على كثير من الناس، تحتمل أكثر من معنى، ففيها غموض، فالواجب علينا عندما تمُرُّ بنا الأدلة المتشابهة أن نردَّها إلى المُحكمة، ونفهمها بناءً على المحكم، فيكون الأصل عندنا في تقرير المعنى الآيات المحكمات، ثمَّ المتشابهات تُرَدُّ إليهن.

    مثال ذلك : عندنا أدلة كثيرة وكثيرة جداً تدل على علو الله سبحانه على خلقه، منها قول الله تبارك وتعالى : { الرحمن على العرش استوى}، ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: " أين الله؟ قالت : في السماء؛ قال: أعتقها فإنها مؤمنة" أخرجه مسلم، وآيات وأحاديث كثيرة أوصلها البعض إلى ألف دليل يدل على علوِّ الله على خلقه؛ هذه محكمة، دلالتها واضحة صريحة لا خفاء فيها، فمثل هذه هي التي تقرر المعنى الذي نتحدّثُ عنه، ثم إن جاءتنا آية أو حديث يحتمل أكثر من معنى، يحتمل هذا المعنى الظاهر ويحتمل معنى آخر ثانياً أو ثالثاً أو رابعاً؛ فنرده إلى المحكم.

    مثال هذا قول الله تبارك وتعالى: { وهو معكم أينما كنتم}، آية في هذا الباب متشابهة؛ فتردّ إلى المحكم، فنقرأ الآية من أولها إلى آخرها ؛ فنجدها تدلُّ على العلم { وهو معكم أينما كنتم}؛ بعلمه، فإذا فسرناها بهذا لا تتعارض مع الأدلة المحكمة وتنسجم معها، فرددناها إلى المحكم وهي الأدلة التي تدل على علو الله السابقة، وفهمناها بناء عليها، بلا تكلف؛ لأن أول الآية وآخرها يتحدث عن العلم.

    قال أبو عمر الطلمنكي المالكي في كتابه "الوصول إلى معرفة الأصول": «أجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله: {وهو معكم أينما كنتم} ونحو ذلك من القرآن: أنه علمه، وأن الله تعالى فوق السموات بذاته، مستو على عرشه كيف شاء». انتهى من العلو للذهبي.

    وقال الإمام أحمد: والله عَزَّ وَجَلَّ على العرش، والكرسي موضع قدميه، وهو يعلم ما في السموات والأرضين السبع، وما بينهما وما تحت الثرى، وما فِي قعر البحار، ومنبت كل شعرة وشجرة وكل زرع وكل نبات، ومسقط كل ورقة وعدد كل كلمة وعدد الحصى والرمل والتراب، ومثاقيل الجبال، وأعمال العباد وآثارهم وكلامهم وأنفاسهم، ويعلم كل شيء لا يخفى عليه من ذلك شيء، وهو عَلَى العرش فوق السماء السابعة ودونه حجب من نور ونار وظلمة وما هو أعلم به.
    فإن احتج مبتدع ومخالف بقول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد " وبقوله " وهو معكم أينما كنتم " وقوله " مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إلا هو رابعهم " إلى قوله " هو معهم أينما كانوا " ونحو هذا من متشابه القرآن.فقل إنما يعني بذلك العلم لأن اللَّه تعالى عَلَى العرش فوق السماء السابعة العليا ويعلم ذلك كله وهو بائن من خلقه لا يخلو من علمه مكان. انتهى من طبقات الحنابلة (1/ 28).

    هكذا يكون فهم آيات الله وسنن النبي صلى الله عليه وسلم؛ تأخذ الدليل الواضح في المعنى، والقوي في الثبوت، الذي قرر معناه وأثبته السلف الصالح من الصحابة ومن اتبعهم؛ وتجعله أصلاً، ثم تردُّ إليه المتشابه؛ هذه هي طريقة الراسخين في العلم .
    راجع تفسير الطبري، وابن كثير، للآية السابعة من سورة آل عمران.

     قال السعدي عند تفسيرها:
    القرآن العظيم كله محكم كما قال تعالى {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} فهو مشتمل على غاية الإتقان والإحكام والعدل والإحسان {ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} وكله متشابه في الحسن والبلاغة وتصديق بعضه لبعضه ومطابقته لفظا ومعنى، وأما الإحكام والتشابه المذكور في هذه الآية فإن القرآن كما ذكره الله {منه آيات محكمات} أي: واضحات الدلالة، ليس فيها شبهة ولا إشكال {هن أم الكتاب} أي: أصله الذي يرجع إليه كل متشابه، وهي معظمه وأكثره، {و} منه آيات {أخر متشابهات} أي: يلتبس معناها على كثير من الأذهان: لكون دلالتها مجملة، أو يتبادر إلى بعض الأفهام غير المراد منها، فالحاصل أن منها آيات بينة واضحة لكل أحد، وهي الأكثر التي يرجع إليها، ومنه آيات تشكل على بعض الناس، فالواجب في هذا أن يرد المتشابه إلى المحكم والخفي إلى الجلي، فبهذه الطريق يصدق بعضه بعضا ولا يحصل فيه مناقضة ولا معارضة، ولكن الناس انقسموا إلى فرقتين {فأما الذين في قلوبهم زيغ} أي: ميل عن الاستقامة بأن فسدت مقاصدهم، وصار قصدهم الغي والضلال وانحرفت قلوبهم عن طريق الهدى والرشاد {فيتبعون ما تشابه منه} أي: يتركون المحكم الواضح ويذهبون إلى المتشابه، ويعكسون الأمر فيحملون المحكم على المتشابه {ابتغاء الفتنة} لمن يدعونهم لقولهم، فإن المتشابه تحصل به الفتنة بسبب الاشتباه الواقع فيه، وإلا فالمحكم الصريح ليس محلا للفتنة، لوضوح الحق فيه لمن قصده اتباعه، وقوله {وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله} للمفسرين في الوقوف على {الله} من قوله {وما يعلم تأويله إلا الله} قولان، جمهورهم يقفون عندها، وبعضهم يعطف عليها {والراسخون في العلم} وذلك كله محتمل، فإن التأويل إن أريد به علم حقيقة الشيء وكنهه كان الصواب الوقوف على {إلا الله} لأن المتشابه الذي استأثر الله بعلم كنهه وحقيقته، نحو حقائق صفات الله وكيفيتها، وحقائق أوصاف ما يكون في اليوم الآخر ونحو ذلك، فهذه لا يعلمها إلا الله، ولا يجوز التعرض للوقوف عليها، لأنه تعرض لما لا يمكن معرفته، كما سئل الإمام مالك رحمه الله عن قوله {الرحمن على العرش [استوى] } فقال السائل: كيف استوى؟ فقال مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فهكذا يقال في سائر الصفات لمن سأل عن كيفيتها أن يقال كما قال الإمام مالك، تلك الصفة معلومة، وكيفيتها مجهولة، والإيمان بها واجب، والسؤال عنها بدعة، وقد أخبرنا الله بها ولم يخبرنا بكيفيتها، فيجب علينا الوقوف على ما حد لنا، فأهل الزيغ يتبعون هذه الأمور المشتبهات تعرضا لما لا يعني، وتكلفا لما لا سبيل لهم إلى علمه، لأنه لا يعلمها إلا الله، وأما الراسخون في العلم فيؤمنون بها ويكلون المعنى إلى الله فيسلمون ويسلمون، وإن أريد بالتأويل التفسير والكشف والإيضاح، كان الصواب عطف {الراسخون} على {الله} فيكون الله قد أخبر أن تفسير المتشابه ورده إلى المحكم وإزالة ما فيه من الشبهة لا يعلمها إلا هو تعالى والراسخون في العلم يعلمون أيضا، فيؤمنون بها ويردونها للمحكم ويقولون {كل} من المحكم والمتشابه {من عند ربنا} وما كان من عنده فليس فيه تعارض ولا تناقض بل هو متفق يصدق بعضه بعضاً ويشهد بعضه لبعض، وفيه تنبيه على الأصل الكبير، وهو أنهم إذا علموا أن جميعه من عند الله، وأشكل عليهم مجمل المتشابه، علموا يقينا أنه مردود إلى المحكم، وإن لم يفهموا وجه ذلك. ولما رغب تعالى في التسليم والإيمان بأحكامه وزجر عن اتباع المتشابه قال {وما يذكر} أي: يتعظ بمواعظ الله ويقبل نصحه وتعليمه إلا {أولوا الألباب} أي: أهل العقول الرزينة لب العالم وخلاصة بني آدم يصل التذكير إلى عقولهم، فيتذكرون ما ينفعهم فيفعلونه، وما يضرهم فيتركونه، وأما من عداهم فهم القشور الذي لا حاصل له ولا نتيجة تحته، لا ينفعهم الزجر والتذكير لخلوهم من العقول النافعة. انتهى

    وأما من زعم من أهل البدع - كالأشاعرة وغيرهم- أن آيات الصفات من المتشابه؛ فقوله باطل مخالف لما عليه السلف الصالح رضي الله عنهم فقد جعلوها من المحكمات وقرروا العقائد بناء عليها.

    قال ابن القيم في الصواعق المرسلة (1/ 213) بعد أن ذكر مسائل من التفسير تنازع الصحابة فيها، قال: ولم يتنازعوا - أي الصحابة- في تأويل آيات الصفات وأخبارها في موضع واحد، بل اتفقت كلمتهم وكلمة التابعين بعدهم على إقرارها وإمرارها مع فهم معانيها وإثبات حقائقها، وهذا يدل على أنها أعظم النوعين بياناً، وأن العناية ببيانها أهم؛ لأنها من تمام تحقيق الشهادتين وإثباتها من لوازم التوحيد فبينها الله ورسوله بياناً شافياً لا يقع فيه لبس ولا إشكال يوقع الراسخين في العلم في منازعة ولا اشتباه، ومن شرح الله لها صدره ونور لها قلبه يعلم أن دلالتها على معانيها أظهر من دلالة كثير من آيات الأحكام على معانيها، ولهذا آيات الأحكام لا يكاد يفهم معانيها إلا الخاصة من الناس، وأما آيات الأسماء والصفات فيشترك في فهمها الخاص والعام، أعني فهم أصل المعنى لا فهم الكنه والكيفية؛ ولهذا أشكل على بعض الصحابة قوله {يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} حتى بين لهم بقوله {مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة 187]، ولم يشكل عليه ولا على غيره قوله : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة 186] وأمثالها من آيات الصفات، وأشكل على عمر بن الخطاب آية الكلالة، ولم يشكل عليه أول الحديد وآخر الحشر وأول سورة طه ونحوها من آيات الصفات.
    إلى أن قال:  وقد تنازع الناس في المحكم والمتشابه تنازعاً كثيراً، ولم يعرف عن أحد من الصحابة قط أن المتشابهات آيات الصفات، بل المنقول عنهم يدل على خلاف ذلك، فكيف تكون آيات الصفات متشابهة عندهم وهم لا يتنازعون في شيء منها، وآيات الأحكام هي المحكمة وقد وقع بينهم النزاع في بعضها؟! وإنما هذا قول بعض المتأخرين، وسيأتي إشباع الكلام في هذا في الفصل المعقود له إن شاء الله تعالى. انتهى والله أعلم 

     

جميع الحقوق متاحة بشرط العزو للموقع © 2024 موقع معهد الدين القيم