• نوع الفتوى: فقه
  • عنوان الفتوى: الحكمة من الكسوف والخسوف
  • رقم الفتوى: 3789
  • تاريخ الإضافة: 13 جُمادي الأول 1441
  • السؤال
    ما هي الحكمة من كسوف الشمس وخسوف القمر ؟
  • الاجابة

    الخسوف والكسوف تخويف من الله لعباده، يدل على ذلك ما جاء في حديث أبي بكرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله تعالى يخوف بها عباده»، وفي رواية: «إن الله تعالى يخوف بهما عباده» وهو في «الصحيح»([1]) ، لذلك أمرنا عند رؤيته بالصلاة والدعاء والصدقة، ففي رواية: «فافزعوا إلى الصلاة» وهو في «الصحيحين»([2])، وفي رواية: «فادعوا الله وكبروا وتصدقوا وصلوا» وهي في «الصحيحين» أيضاً([3]). وهذا لا ينافي وجود أسباب حسية أيضاً لهما. والله أهل هذه خلاصة الفتوى.

    قال ابن دقيق العيد في شرح عمدة الأحكام(1/ 349): وفي قوله - عليه السلام - «يخوف الله بهما عباده» إشارة إلى أنه ينبغي الخوف عند وقوع التغيرات العلوية، وقد ذكر أصحاب الحساب لكسوف الشمس والقمر أسباباً عادية، وربما يعتقد معتقد أن ذلك ينافي قوله - عليه السلام - " يخوف الله بهما عباده " وهذا الاعتقاد فاسد؛ لأن لله تعالى أفعالاً على حسب الأسباب العادية، وأفعالاً خارجة عن تلك الأسباب، فإن قدرته تعالى حاكمة على كل سبب ومسبب، فيقطع ما شاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض، فإذا كان ذلك كذلك فأصحاب المراقبة لله تعالى ولأفعاله، الذين عقدوا أبصار قلوبهم بوحدانيته، وعموم قدرته على خرق العادة، واقتطاع المسببات عن أسبابها إذا وقع شيء غريب، حدث عندهم الخوف لقوة اعتقادهم في فعل الله تعالى ما شاء، وذلك لا يمنع أن يكون ثمة أسباب تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله تعالى خرقها، ولهذا كان النبي عند اشتداد هبوب الريح يتغير، ويدخل، ويخرج خشية أن تكون كريح عاد، وإن كان هبوب الريح موجوداً في العادة. والمقصود بهذا الكلام: أن يعلم أن ما ذكره أهل الحساب من سبب الكسوف: لا ينافي كون ذلك مخوفاً لعباد الله تعالى. انتهى

    وقال ابن عثيمين في الشرح الممتع (5/ 174): "فسبب كسوف الشمس أن القمر يحول بينها وبين الأرض فيحجبها عن الأرض، إما كلها أو بعضها، لكن لا يمكن أن يحجب القمر الشمس عن جميع الأرض؛ لأنه أصغر منها، حتى لو كسفها عن بقعة على قدر مساحة القمر لم يحجبها عن البقعة الأخرى؛ لأنها أرفع منه بكثير، ولذلك لا يمكن أن يكون الكسوف كليا في الشمس في جميع أقطار الدنيا أبدا، إنما يكون في موضع معين، مساحته بقدر مساحة القمر.
    وإذا قلنا بهذا القول المحقق المتيقن: إن سبب كسوف الشمس هو حيلولة القمر بينها وبين الأرض تبين أنه لا يمكن الكسوف في اليوم السابع أو الثامن أو التاسع أو العاشر لبعد القمر عن الشمس في هذه الأيام، إنما يقرب منها في آخر الشهر..."

    إلى أن قال: "هذا السبب الذي ذكرته هو السبب الحسي.
    لكن هناك سبب شرعي لا يعلم إلا عن طريق الوحي، ويجهله أكثر الفلكيين ومن سار على منهاجهم.
    والسبب الشرعي هو تخويف الله لعباده، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، وإنما يخوف الله بهما عباده»؛ ولهذا أمرنا بالصلاة والدعاء والذكر وغير ذلك كما سيأتي إن شاء الله. فهذا السبب الشرعي هو الذي يفيد العباد؛ ليرجعوا إلى الله، أما السبب الحسي فليس ذا فائدة كبيرة، ولهذا لم يبينه النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان فيه فائدة كبيرة للناس لبينه عن طريق الوحي؛ لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يعلم سبب الكسوف الحسي، ولكن لا حاجة لنا به، ومثل هذه الأمور الحسية يكل الله أمر معرفتها إلى الناس، وإلى تجاربهم حتى يدركوا ما أودع الله في هذا الكون من الآيات الباهرة بأنفسهم.
    أما الأسباب الشرعية، أو الأمور الشرعية التي لا يمكن أن تدركها العقول ولا الحواس، فهي التي يبينها الله للعباد.
    فإن قال قائل: كيف يجتمع السبب الحسي والشرعي، ويكون الحسي معلوماً معروفاً للناس قبل أن يقع، والشرعي معلوم بطريق الوحي، فكيف يمكن أن نجمع بينهما؟
    فالجواب: أن لا تنافي بينهما؛ لأن الأمور العظيمة كالخسف بالأرض، والزلازل، والصواعق، وشبهها التي يحس الناس بضررها، وأنها عقوبة، لها أسباب طبيعية، يقدرها الله حتى تكون المسببات، وتكون الحكمة من ذلك هي تخويف العباد، فالزلازل لها أسباب، والصواعق لها أسباب، والبراكين لها أسباب، والعواصف لها أسباب، لكن يقدر الله هذه الأسباب من أجل استقامة الناس على دين الله. قال تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} [الروم]، ولكن تضيق قلوب كثير من الناس عن الجمع بين السبب الحسي والسبب الشرعي، وأكثر الناس أصحاب ظواهر لا يعتبرون إلا بالشيء الظاهر، ولهذا تجد الكسوف والخسوف لما علم الناس أسبابهما الحسية ضعف أمرهما في قلوب الناس حتى كأنه صار أمراً عادياً، ونحن نذكر قبل أن نعلم بهذه الأمور أنه إذا حصل الكسوف رعب الناس رعباً شديداً، وصاروا يبكون بكاء شديداً، ويذهبون إلى المساجد خائفين مذعورين، كما وقع ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام لما كسفت الشمس أول مرة في عهده وكان ذلك بعد أن ارتفعت بمقدار رمح بعد طلوعها وأظلمت الدنيا، ففزع الناس، وفزع النبي عليه الصلاة والسلام فزعا عظيما حتى إنه أدرك بردائه، أي: من شدة فزعه قام بالإزار قاصدا المسجد حتى تبعوه بالرداء، فارتدى به، وجعل يجره، أي: لم يستقر ليوازن الرداء من شدة فزعه، وأمر أن ينادى الصلاة جامعة؛ من أجل أن يجتمع الناس كلهم. فاجتمعت الأمة من رجال ونساء، وصلى بهم النبي عليه الصلاة والسلام صلاة لا نظير لها؛ لأنها لآية لا نظير لها.
    آية شرعية لآية كونية، أطال فيها إطالة عظيمة، حتى إن بعض الصحابة ـ مع نشاطهم وقوتهم ورغبتهم في الخير ـ تعبوا تعبا شديدا من طول قيامه عليه الصلاة والسلام، وركع ركوعا طويلا، وكذلك السجود، فصلى صلاة عظيمة، والناس يبكون يفزعون إلى الله، وعرضت على النبي عليه الصلاة والسلام الجنة والنار في هذا المقام، يقول: «فلم أر يوما قط أفظع من هذا اليوم»؛ حيث عرضت النار عليه حتى صارت قريبة فتنحى عنها، أي: رجع القهقهرى خوفا من لفحها، سبحان الله! فالأمر عظيم! أمر الكسوف ليس بالأمر الهين، كما يتصوره الناس اليوم، وكما يصوره أعداء المسلمين حتى تبقى قلوب المسلمين كالحجارة، أو أشد قسوة والعياذ بالله.
    يكسف القمر أو الشمس والناس في دنياهم، فالأغاني تسمع، وكل شيء على ما هو عليه لا تجد إلا الشباب المقبل على دين الله أو بعض الشيوخ والعجائز، وإلا فالناس سادرون لاهون، ولهذا لا يتعظ الناس بهذا الكسوف لا بالشمس ولا بالقمر مع أنه أمر هام، ويجب الاهتمام به". انتهى

     


    ([1]) أخرجه البخاري (1048).

    ([2]) أخرجها البخاري (1047)، ومسلم (901).

    ([3]) أخرجها البخاري (1044)، ومسلم (901).

جميع الحقوق متاحة بشرط العزو للموقع © 2024 موقع معهد الدين القيم