16- كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم


  • من صحيح السيرة النبوية

    16- *كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم*

    أخرج الإمام البخاري رحمه الله عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ(1)، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلاَءُ(2)، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ(3) فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ(4)، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ(5)، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الحَقُّ(6) وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ المَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ»، قَالَ: " فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي(7) حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ(8) ثُمَّ أَرْسَلَنِي(9)، فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [العلق: 2] " فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ(10)، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي»(11) فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ(12)، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الخَبَرَ: «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي» فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ(13)، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ(14)، وَتَقْرِي الضَّيْفَ(15)، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ(16)، فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ العُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ(17) الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا(18)، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ»، قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الوَحْيُ. متفق عليه.

    وقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيَّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحَدِّثُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ ، وفي رواية: «ثُمَّ فَتَرَ الْوَحْيُ عَنِّي فَتْرَةً(19)، فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسًا عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ»، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « فَجُئِثْتُ مِنْهُ فَرَقًا(20)، فَرَجَعْتُ، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَدَثَّرُونِي، فَأَنْزَلَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ}(21) [المدثر: 2] فَاهْجُرْ - وَهِيَ الْأَوْثَانُ - قَالَ: «ثُمَّ تَتَابَعَ الْوَحْيُ». متفق عليه.

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    (1) فلق الصبح هو ضياؤه، يعني واضح بَيّن كوضوح ضياء الصبح.

    (2) الخلاء هو الخلوة، قال أهل العلم: حببت العزلة إليه صلى الله عليه وسلم؛ لأن معها فراغ القلب، وهي معينة على التفكير، وبها يتقطع عن مألوفات البشر ويتخشع قلبه.

    وقالوا: وإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الخلاء والانفراد عن قومه لما يراهم عليه من الضلال المبين من عبادة الأوثان والسجود للأصنام، وقويت محبته للخلوة عند مقاربة إيحاء الله إليه صلوات الله وسلامه عليه. انتهى

    (3) الغار هو الكهف، فهو كهف في جبل في مكة، واسم الجبل حراء.

    (4) ينزع أي يرجع، فكان يذهب إلى الكهف ويبقى فيه للتعبد أياماً ثم يرجع إلى زوجته وأولاده.

    (5) فيأخذ ما يحتاجه من طعام وشراب، ويرجع إلى الغار.

    (6) أي بقي على هذا الحال إلى أن جاءه الوحي.

    (7) ضمني وعصرني حتى حبس نفسي.

    (8) غاية وسعي.

    (9) أي أطلقني.

    (10) يخفق قلبه ويتحرك بشدة من الخوف، وبهذا صار نبياً صلى الله عليه وسلم صاحب رسالة.

    (11) غطوني غطوني.

    (12) الفزع، الخوف الشديد.

    (13) يعني تنفق على المحتاج؛ كالإنفاق على الضعيف واليتيم والعيال وغير ذلك.

    (14) تكسب غيرك المال، أي تعطيه تبرعاً منك للذي لا يجده عند غيرك.

    (15) تكرم الضيف بالطعام.

    (16) تعين الشخص الذي مرت به حادثة يحتاج مساعدة فيها.

    (17) جبريل عليه السلام.

    (18) شاباً قوياً كي أنصرك وأعينك.

    (19) يعني انقطع الوحي عني مدة من الزمن، فلم يأته جبريل مدة ثم جاءه بعد ذلك وتتابع لم ينقطع.

    (20) أي فزعت ورعبت.

    (21) وبهذا أمر صلى الله عليه وسلم بالبلاغ ودعوة الناس إلى التوحيد، وهو إفراد الله بالعبادة، وترك عبادة القبور والأصنام والحجر والشجر والملائكة والإنس والجن، وهذا أول ما أمر ببلاغه صلى الله عليه وسلم فهو أول أمر الدين الذي يجب على المسلمين الاعتناء به قبل كل شيء؛ تعلماً وتعليماً ودعوة؛ فهذه أول دعوة الأنبياء جميعاً، قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}، وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، وقد عاد وانتشر الشرك في الأمة اليوم كثيراً بعبادة القبور والأولياء، فيجب على الدعاة الجد والاجتهاد في محاربته وبيان التوحيد للناس، وأن يكونوا ورثة الأنبياء بحق في حمل ما حملوه وتحمل ما تحملوه في سبيل ذلك.

    وظهرت كذلك دعوات جديدة تنقض أصل الإيمان وتخل بأركانه كدعوة العلمانية، فأعظم ثلاث عقائد خطراً على إسلام المسلمين اليوم: *العلمانية والشيعة والصوفية*، فيجب على دعاة الحق محاربتها بكل الوسائل الشرعية، وخصوصاً نشر العلم بين الناس. والله أعلم

     

    كتبه أبو الحسن علي الرملي

    26 / 11 / 1439 هجري

جميع الحقوق متاحة بشرط العزو للموقع © 2024 موقع معهد الدين القيم