17- كيفية إتيان الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم


  • من صحيح السيرة النبوية

    17- *كيفية إتيان الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم*

    تقدم كيف نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم أول مرة وثاني مرة.

    وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال:

    «أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي؛ فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحياناً يتمثل لي المَلك رجلاً يكلمني؛ فأعي ما يقول»(1)

    وقالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد؛ فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصدعرقاً(2). متفق عليه.

    وفي حديث الإفك قالت عائشة: فوالله؛ ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه، ولا خرج أحد من أهل البيت؛ حتى أنزل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البُرَحاء، حتى إنه كان يتحدر منه مثل الجُمان من العرق - وهو في يوم شاتٍ - من ثقل الوحي الذي أنزل عليه.(3) متفق عليه.

    وفي صحيح مسلم وغيره عن عبادة بن الصامت قال:

    كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي كُرِب لذلك، وتَربَّدَ وجهه(4).

    وفي صحيح البخاري عن زيد بن ثابت حين نزلت: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} فلما شكى ابن أم مكتوم ضرارته نزلت: {غير أولي الضرر} قال: وكانت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي وأنا أكتب، فلما نزل الوحي كادت فخذه ترض فخذي(5).

    وفي الصحيحين عن يعلى بن أمية قال: وددت أني أرى النبي صلى الله عليه وسلم وقد نزل عليه الوحي، قال فقال عمر: أيسرك أن تنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد أنزل عليه الوحي؟ قال: فرفع عمر طرف الثوب، فنظرت إليه له غطيط، - قال وأحسبه قال - كغطيط البكر-.

    وفي رواية: فجاءه الوحي، فأشار عمر بيده إلى يعلى بن أمية: تعال، فجاء يعلى، فأدخل رأسه، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم محمر الوجه، يغط ساعة، ثم سري عنه.(6).

    انتهى باختصار وتصرف من صحيح السيرة النبوية للألباني رحمه الله.

    ــــــــــــــــــــــــــــــــ

    (1) (الصلصلة): الصوت، والجرس معروف، وهو شبه الناقوس الصغير يوضع في أعناق الإبل.

    و(يفصم عني) أي يقلع عني، يعني يقلع عني وقد فهمت وحفظت.

    قال أهل العلم: معناه أنه صوت متدارك، يسمعه ولا يثبته أول ما يقرع سمعه، حتى يفهمه من بعد ذلك، قال العلماء: والحكمة في ذلك أن يتفرغ سمعه صلى الله عليه وسلم ولا يبقى فيه ولا في قلبه مكان لغير صوت الملك. ومعنى وعيت جمعت وفهمت وحفظت.

    وأما يفصم أي يقلع وينجلي ما يتغشاني منه.

    ومعنى الحديث أن الملك يفارقه على أن يعود، ولا يفارقه مفارقة قاطع لا يعود.

    ذكر في هذا الحديث حالين من أحوال الوحي، وهما: مثل صلصلة الجرس، وتمثل الملك رجلاً، ولم يذكر الرؤيا في النوم، وهي من الوحي، وتقد تقدمت في حديث عائشة في أول نزول الوحي.

    (2) (يتفصد عرقاً) أي يسيل عرقاً، أي فيقلع عنه الوحي وهو يتصبب عرقاً في اليوم البارد؛ لشدته.

    قال أهل العلم: كَانَ إِذا ورد عَلَيْهِ الْوَحْي يجد لَهُ مشقة ويغشاه الكرب لثقل مَا يلقى عَلَيْهِ؛ قَالَ تَعَالَى {إِنَّا سنلقي عَلَيْك قولا ثقيلا} وَلذَلِك كَانَ يَعْتَرِيه مثل حَال المحموم ، كَمَا رُوِيَ أَنه كَانَ يَأْخُذهُ عِنْد الْوَحْي الرحضاء، أَي البهر والعرق من الشدَّة، وَأكْثر مَا يُسمى بِهِ عرق الْحمى، وَلذَلِك كَانَ جَبينه يتفصد عرقاً، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك ليبلو صبره وَيحسن تأديبه فيرتاض لاحْتِمَال مَا كلفه من أعباء النُّبُوَّة.

    (3) (ما رام) أي ما فارقه (البُرَحاء) هي الشدة (ليتحدر) أي ليتصبب (الجمان) الدر.

    شبهت قطرات عرقه صلى الله عليه وسلم بحبات اللؤلؤ في الصفاء والحسن .

    (4) (كُرِب) من الكرب وهو الغم الذي يأخذ بالنفس، لشدة نزوله وصعوبة حصوله. قال أهل العلم: والمعنى أنه كان لشدة اهتمامه بالوحي كمن أخذه غم.

    ومعنى (تربد) أي تغير وصار كلون الرماد، وفي ظاهر هذا مخالفة لما جاء في حديث المحرم الذي أحرم بالعمرة وعليه خلوق، وأن يعلى بن أمية نظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حال نزول الوحي، وهو محمر الوجه كما سيأتي. وجوابه أنها حمرة كدرة، وهذا معنى التربد، وأنه في أوله يتربد ثم يحمر أو بالعكس .

    (5) وفي رواية عند أبي داود، قال: فغشيته السكينة، فوقعت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فما وجدت ثقل شيء أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أهل العلم: (فغشيته) أي سترته وغطته (السكينة) يريد ما عرض له من السكون عند نزول الوحي (أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم) وكان ثقل فخذه الشريفة من ثقل الوحي.

    (6) (له غطيط) هو كصوت النائم الذي يردده مع نفسه. وقوله (كغطيط البكر) هو بفتح الباء وهو الفتي من الإبل.

     

    كتبه أبو الحسن علي الرملي

    1 / 12 / 1439 هجري

جميع الحقوق متاحة بشرط العزو للموقع © 2024 موقع معهد الدين القيم