23- أمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام بإبلاغ الرسالة إلى الخاص والعام


  • من صحيح السيرة النبوية

    23- * باب أمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام بإبلاغ الرسالة إلى الخاص والعام، وأمره له بالصبر والاحتمال، والإعراض عن الجاهلين المعاندين المكذبين بعد قيام الحجة عليهم، وإرسال الرسول الأعظم إليهم، وذكر ما لقي من الأذية منهم هو وأصحابه رضي الله عنهم*

    الجزء الأول:

    قال ابن كثير كما في صحيح السيرة النبوية للألباني رحمه الله:

    قال الله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين. واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين. فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون. وتوكل على العزيز الرحيم. الذي يراك حين تقوم. وتقلبك في الساجدين. إنه هو السميع العليم} [الشعراء: 214 - 220]

    قال الطبري رحمه الله: وقوله: {وأنذر عشيرتك الأقربين} يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وأنذر عشيرتك من قومك الأقربين إليك قرابة، وحذرهم من عذابنا أن ينزل بهم بكفرهم. وذكر أن هذه الآية لما نزلت، بدأ ببني جده عبد المطلب وولده، فحذرهم وأنذرهم.

    قال: وقوله: {واخفض جناحك} يقول: وألن جانبك وكلامك {لمن اتبعك من المؤمنين}.

    وقال: القول في تأويل قوله تعالى: {فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون. وتوكل على العزيز الرحيم. الذي يراك حين تقوم. وتقلبك في الساجدين. إنه هو السميع العليم} يقول تعالى ذكره: فإن عصتك يا محمد عشيرتك الأقربون الذين أمرتك بإنذارهم، وأبوا إلا الإقامة على عبادة الأوثان، والإشراك بالرحمن، فقل لهم: {إني بريء مما تعملون} من عبادة الأصنام ومعصية بارئ الأنام. {وتوكل على العزيز} في نقمته من أعدائه {الرحيم}بمن أناب إليه وتاب من معاصيه. {الذي يراك حين تقوم} يقول: الذي يراك حين تقوم إلى صلاتك.انتهى

    قال ابن كثير: وقال تعالى: {وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون} [الزخرف: 44]

    قال الطبري رحمه الله: وقوله: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) يقول تعالى ذكره: وإن هذا القرآن الذي أوحي إليك يا محمد الذي أمرناك أن تستمسك به لشرف لك ولقومك من قريش (وَسَوْفَ تُسْأَلُون) يقول: وسوف يسألك ربك وإياهم عما عملتم فيه، وهل عملتم بما أمركم ربكم فيه، وانتهيتم عما نهاكم عنه فيه؟ انتهى

    قال ابن كثير: وقال تعالى:{ إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} [القصص: 85]

    أي: إن الذي فرض عليك وأوجب عليك تبليغ القرآن لرادك إلى دار الآخرة، وهي المعاد، فيسألك عن ذلك؛ كما قال تعالى: { فوربك لنسألنهم أجمعين. عما كانوا يعملون} [الحجر: 92 و 93]

    والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جداً، وقد تقصينا الكلام على ذلك في كتابنا (التفسير) وبسطنا من القول في ذلك عند قوله تعالى في سورة (الشعراء): {وأنذر عشيرتك الأقربين} وأوردنا أحاديث جمة في ذلك.

    فمن ذلك ما أخرجه أحمد والشيخان عن ابن عباس قال:

    لما أنزل الله: {وأنذر عشيرتك الأقربين} أتى النبي صلى الله عليه وسلم الصفا (1) فصعد عليه، ثم نادى: يا صباحاه (2). فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه وبين رجل يبعث رسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

    «يا بني عبد المطلب! يا بني فهر! يا بني لؤي! أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم، صدقتموني؟». قالوا: نعم. قال:

    «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» [سبأ: 46]

    فقال أبو لهب (3) - لعنه الله -: تباً لك سائر اليوم، أما دعوتنا إلا لهذا؟! وأنزل الله عز وجل:{ تبت يدا أبي لهب وتب}.انتهى

    قال ابن كثير في تفسير: فقوله تعالى: {تبت يدا أبي لهب} أي: خسرت وخابت، وضل عمله وسعيه، {وتب} أي: وقد تب تحقق خسارته وهلاكه.

    وأخرج أحمد - والسياق له - والشيخان عن أبي هريرة قال:

    لما نزلت هذه الآية: {وأنذر عشيرتك الأقربين} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً فعم وخص، فقال: (يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار؛ فإني - والله - لا أملك لكم من الله شيئاً إلا أن لكم رحماً سأبلها بِبِلالها (4))

    وروى أحمد ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت:

    لما نزلت: {وأنذر عشيرتك الأقربين} قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:

    (يا فاطمة بنت محمد يا صفية بنت عبد المطلب (5) يا بني عبد المطلب لا أملك لكم من الله شيئا سلوني من مالي ما شئتم).

    انتهى بتصرف بزيادة ونقصان.

    ــــــــــــــــــــــــــــــــ

    (1) جبل الصفا، أحد جبلي المناسك الصفا والمروة.

    (2) قال أهل العلم: هذه كلمة يقولها المستغيث، وأصلها: إذا صاحوا للغارة؛ لأنهم أكثر ما كانوا يغيرون عند الصباح، ويسمون يوم الغارة يوم الصباح، فكأن القائل يا صباحاه يقول: قد غشينا العدو.

    وقيل: إن المتقاتلين كانوا إذا جاء الليل يرجعون عن القتال، فإذا عاد النهار عاودوه، فكأنه يريد بقوله يا صباحاه؛ قد جاء وقت الصباح فتأهبوا للقتال.

    (3) هو عم النبي صلى الله عليه وسلم، عدو الله وعدو رسوله صلى الله عليه وسلم، اسمه عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، ويكنى أبا عتبة، قيل له أبو لهب لجماله، مات كافراً بعد غزوة بدر بسبعة أيام ميتة شنيعة بداء يقال له: العدسة.

    وكثير من الناس يخلط بينه وبين أبي جهل، ويظن أن أبا جهل عم النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا خطأ، أبو جهل من بني مخزوم، وليس من بني هاشم.

    وهو أيضاً عدو الله، اشتركا في شدة عداوتهما لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، اسمه عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي المخزومي، يشترك مع النبي صلى الله عليه وسلم في مرة بن كعب، وكان أبو جهل يكنى في الجاهلية أبا الحكم، وكناه رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا جهل، قُتل يوم بدر كافرًا.

    (4) البِلال: الماء، ومعنى الحديث سأصلها، شبهت قطيعة الرحم بالحرارة، وشبه وصلها بإطفاء الحرارة ببرودة، ومنه: بلوا أرحامكم؛ أي صلوها.

    (5) هي عمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ووالدة الزبير بن العوام، أحد العشرة، وهي شقيقة حمزة، أمّها هالة بنت وهب خالة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أسلمت، وهاجرت مع ولدها الزبير.

     

    كتبه أبو الحسن علي الرملي

    25 / 12 / 1439 هجري

جميع الحقوق متاحة بشرط العزو للموقع © 2024 موقع معهد الدين القيم