24- أمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام بإبلاغ الرسالة إلى الخاص والعام الجزء الثاني


  • من صحيح السيرة النبوية

    24- * باب أمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام بإبلاغ الرسالة إلى الخاص والعام، وأمره له بالصبر والاحتمال، والإعراض عن الجاهلين المعاندين المكذبين بعد قيام الحجة عليهم، وإرسال الرسول الأعظم إليهم، وذكر ما لقي من الأذية منهم هو وأصحابه رضي الله عنهم*

    الجزء الثاني:

    قال ابن كثير كما في صحيح السيرة للألباني:

    وعن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: جلسنا إلى المقداد بن الأسود يوماً، فمر به رجل، فقال: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لوددنا أنا رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت. فاستغضب، فجعلتُ أعجبُ ما قال إلا خيراً، ثم أقبل إليه فقال:

    ما يحمل الرجل على أن يتمنى محضراً غيَّبه الله عنه، لا يدري لو شهده كيف كان يكون فيه؟! والله لقد حضر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أقوامٌ أكبهم الله على مناخرهم في جنهم؛ لم يجيبوه ولم يصدقوه.

    أولا تحمدون الله إذ أخرجكم لا تعرفون إلا ربكم، مصدقين لما جاء به نبيكم، قد كفيتم البلاء بغيركم؟!

    والله لقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم على أشد حال بعث عليها فيه نبي من الأنبياء؛ في فترة وجاهلية، ما يرون أن ديناً أفضل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان فرق به بين الحق والباطل، وفرق بين الوالد وولده؛ حتى أن الرجل ليرى والده وولده أو أخاه كافراً - وقد فتح الله قفل قلبه للإيمان - يعلم أنه إن هلك دخل النار، فلا تقر عينه، وهو يعلم أن حبيبه في النار، وأنها لَلَّتي قال الله عز وجل:{الذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما} [الفرقان: 74]

    أخرجه أحمد (6 / 2 - 3) وابن حبان (1684) بسند صحيح رجاله كلهم ثقات

    والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استمر يدعو إلى الله تعالى ليلاً ونهاراً، وسراً وجهراً، لا يصرفه عن ذلك صارف، ولا يرده عن ذلك راد، ولا يصده عن ذلك صاد، يتبع الناس في أنديتهم ومجامعهم ومحافلهم، وفي المواسم ومواقف الحج، يدعو من لقيه من حر وعبد، وضعيف وقوي، وغني وفقير، جميع الخلق في ذلك عنده شرع سواء.

    وتسلط عليه وعلى من اتبعه من آحاد الناس من ضعفائهم؛ الأشداءُ الأقوياء من مشركي قريش بالأذية القولية والفعلية.

    وكان من أشد الناس عليه عمه أبو لهب، واسمه عبد العزى بن عبد المطلب، وامرأته أم جميل أروى بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان.

    وخالفه في ذلك عمه أبو طالب بن عبد المطلب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب خلق الله إليه طبعاً، وكان يحنو عليه، ويحسن إليه، ويدافع عنه ويحامي، ويخالف قومه في ذلك، مع أنه على دينهم وعلى خلتهم؛ إلا أن الله قد امتحن قلبه بحبه حباً طبعياً لا شرعياً.

    وكان استمراره على دين قومه من حكمة الله تعالى، ومما صنعه لرسوله من الحماية؛ إذ لو كان أسلم أبو طالب لما كان له عند مشركي قريش وجاهة ولا كلمة، ولا كانوا يهابونه ويحترمونه، ولاجترؤوا عليه، ولمدوا أيديهم وألسنتهم بالسوء إليه {وربك يخلق ما يشاء ويختار} [القصص: 28] وقد قسم خلقه أنواعاً وأجناساً.

    فهذان العمان كافران: أبو طالب وأبو لهب، ولكن هذا يكون في القيامة في ضحضاح من النار، وذلك في الدرك الأسفل من النار، وأنزل الله فيه سورة في كتابه تتلى على المنابر، وتقرأ في المواعظ والخطب، تتضمن أنه {سيصلى ناراً ذات لهب. وامرأته حمالة الحطب}[المسد: 3 و 4]

    روى الإمام أحمد والبيهقي عن ربيعة بن عباد من بني الديل - وكان جاهلياً فأسلم - قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق (ذي المجاز) وهو يقول: «يا أيها الناس قولوا: (لا إله إلا الله) تفلحوا»، والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه، أحول، ذو غديرتين، يقول: إنه صابئ كاذب. يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه؟ فقالوا: هذا عمه أبو لهب

    ثم رواه البيهقي من طريق أخرى عن ربيعة الديلي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ب (ذي المجاز) يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله، ووراءه رجل أحول، تقد وجنتاه، وهو يقول: يا أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم ودين آبائكم.

    قلت: من هذا؟ قيل: هذا أبو لهب.

    وأما أبو طالب فكان في غاية الشفقة والحنو الطبيعي، كما سيظهر من صنائعه وسجاياه واعتماده فيما يحامي به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.

    وروى البخاري في (التاريخ) والبيهقي عن الحاكم من حديث عقيل بن أبي طالب قال: جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا فانهه عنا. فقال: يا عقيل انطلق فأتني بمحمد. فانطلقت فاستخرجته من كنس أو خنس - يقول: بيت صغير - فجاء به في الظهيرة في شدة الحر فلما أتاهم قال: إن بني عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانته عن أذاهم. فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء، فقال:

    «ترون هذه الشمس؟». قالوا: نعم. قال: «فما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم على أن تشتعلوا منها بشعلة»(1).

    فقال أبو طالب: والله؛ ما كذب ابن أخي قط، فارجعوا.

     

    وفي ذلك دلالة على أن الله تعالى عصمه بعمه، مع خلافه إياه في دينه، وقد كان يعصمه حيث لا يكون عمه بما يشاء، لا معقب لحكمه.

    وروى الإمام أحمد، والبخاري عن ابن عباس قال:

    قال أبو جهل: لئن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة؛ لأطأن على عنقه. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «لو فعل ذلك لأخذته الملائكة عياناً»

    وروى أحمد ومسلم والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم.

    قال: فقال: واللات والعزى لئن رأيته يصلي كذلك لأطأن على رقبته، ولأعفرن وجهه بالتراب.

    فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ رقبته. قال: فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه(2)، ويتقي بيديه(3).

    قال: فقيل له: ما لك؟ قال: إن بيني وبينه خندقاً من نار، وهولاً، وأجنحة. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً»

    قال: وأنزل الله تعالى - لا أدري في حديث أبي هريرة أم لا -:{ كلا إن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى} [العلق: 6 و 7] إلى آخر السورة.

    وروى الإمام أحمد والبخاري في مواضع من (صحيحه) ومسلم عن عبد الله -هو ابن مسعود- قال:

    ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على قريش غير يوم واحد، فإنه كان يصلي، ورهط من قريش جلوس، وسلا جزور قريب منه، فقالوا: من يأخذ هذا السلا فيلقيه على ظهره؟ فقال عقبة بن أبي معيط: أنا. فأخذه فألقاه على ظهره، فلم يزل ساجداً، حتى جاءت فاطمة فأخذته عن ظهره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم عليك بهذا الملأ من قريش، اللهم عليك بعتبة بن ربيعة، اللهم عليك بشيبة بن ربيعة، اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، اللهم عليك بعقبة بن أبي معيط، اللهم عليك بأبي بن خلف. أو: أمية بن خلف» . شعبة الشاك

    قال عبد الله: فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر جميعاً، ثم سحبوا إلى القليب، غير أبي أو أمية بن خلف فإنه كان رجلاً ضخماً؛ فتقطع.

    والصواب: أمية بن خلف؛ فإنه الذي قتل يوم بدر، وأخوه أُبي إنما قتل يوم أحد كما سيأتي بيانه.

    والسلا: هو الذي يخرج مع ولد الناقة كالمشيمة لولد المرأة.

    وفي بعض ألفاظ (الصحيح) : أنهم لما فعلوا ذلك استضحكوا حتى جعل بعضهم يميل على بعض، أي: يميل هذا على هذا من شدة الضحك. لعنهم الله.

    وفيه: أن فاطمة لما ألقته عنه أقبلت عليهم فسبتهم، وأنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من صلاته رفع يديه يدعو عليهم، فلما رأوا ذلك سكن عنهم الضحك وخافوا دعوته، وأنه صلى الله عليه وسلم دعا على الملأ منهم جملة، وعين في دعائه سبعة، وقع في أكثر الروايات تسمية ستة منهم، وهم: عتبة وأخوه شيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، وأبو جهل بن هشام، وعقبة بن أبي معيط، وأمية بن خلف.

    قال أبو إسحاق: ونسيت السابع.

    قلت: وهو عمارة بن الوليد وقع تسميته في (صحيح البخاري).

    وروى عن عروة بن الزبير قال:سألت ابن عمرو بن العاص، فقلت: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

    بينما النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة، إذ أقبل عليه عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه حتى أخذ بمنكبه، ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: {أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم} [غافر: 28]

    انفرد به البخاري، وقد رواه في أماكن من (صحيحه)، وصرح في بعضها ب (عبد الله بن عمرو بن العاص)، وهو أشبه؛ لرواية عروة عنه، وفي رواية معلقة عن عروة قال: قيل لعمرو بن العاص. وهذا أشبه لتقدم هذه القصة. انتهى باختصار. والله أعلم

     

    ــــــــــــــــــــــــــ

    (1) قال الألباني رحمه الله في الصحيحة: وأما حديث: «يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره أو أهلك فيه ما تركته». فليس له إسناد ثابت ولذلك أوردته في " الأحاديث الضعيفة " (913).

    (2) أي تراجع إلى الخلف.

    (3) أي يدفع عن نفسه بيديه شيئاً يهاجمه.

     

    كتبه أبو الحسن علي الرملي

    28 / 12 / 1439 هجري

جميع الحقوق متاحة بشرط العزو للموقع © 2024 موقع معهد الدين القيم