25- فيما اعترض به المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم


  • من صحيح السيرة النبوية

    25- قال ابن كثير رحمه الله: فيما اعترض به المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما تَعنتُوا له في أسئلتهم إياه؛ أنواعاً من الآيات وخرق العادات على وجه العناد لا على وجه طلب الهدى والرشاد

    فلهذا لم يجابوا إلى كثير مما طلبوا، ولا ما إليه رغبوا؛ لعلم الحق سبحانه أنهم لو عاينوا وشاهدوا ما أرادوا لاستمروا في طغيانهم يعمهون(1)، ولظلوا في غيهم(2) وضلالهم يتردَّون(3).

    قال الله تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية لَيُؤمنُنَّ بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون. ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون. ولو أننا نزلنا إليهم الملآئكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون} [الأنعام: 109 - 111].

    قال المفسرون: قوله عز وجل: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم} أي: حلفوا بالله أوكد ما قدروا عليه من الأيمان وأشدها، {لئن جاءتهم آية} أي علامة ودليل على صدق النبوة كما جاءت من قبلهم من الأمم؛ كناقة صالح ،{ليؤمنن بها قل} يا محمد، {إنما الآيات عند الله} والله قادر على إنزالها، {وما يشعركم} وما يدريكم،{أنها إذا جاءت لا يؤمنون} أي وما يدريكم أيها المؤمنون إذا جاءت الآيات أن المشركين يؤمنون؟

    {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة} يعني ونحول بينهم وبين الإيمان، فلو جئناهم بالآيات التي سألوا ما آمنوا بها؛ كما لم يؤمنوا به أول مرة، أي: كما لم يؤمنوا بما قبلها من الآيات من انشقاق القمر وغيره، فلا يؤمنون كما لم يؤمنوا به أول مرة.

    {ونذرهم} نتركهم {في طغيانهم} ضلالهم {يعمهون} يترددون متحيرين.

    {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة} فرأوهم بأعينهم {وكلمهم الموتى} بإحيائنا إياهم فشهدوا لك بالنبوة كما سألوا {وحشرنا} وجمعنا {عليهم كل شيء قبلاً} أي: فوجاً فوجاً، وقيل: هو بمعنى المقابلة والمواجهة، من قولهم: أتيتك قبلاً لا دبراً، إذا أتاه من قبل وجهه {ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله} ذلك، {ولكن أكثرهم يجهلون}.

    وقال تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون. ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 96 و97]

    قال المفسرون: إن الذين حقَّت عليهم كلمة ربك -أيها الرسول- بطردهم من رحمته وعذابه لهم، لا يؤمنون بحجج الله، ولا يقرُّون بوحدانيته، ولا يعملون بشرعه، ولو جاءتهم كل موعظة وعبرة حتى يعاينوا العذاب الموجع، فحينئذ يؤمنون، ولا ينفعهم إيمانهم.

    وقال تعالى:{ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً} [الإسراء: 59]

    قال المفسرون: وما منعَنا من إنزال المعجزات التي سألها المشركون إلا تكذيب مَن سبقهم من الأمم، فقد أجابهم الله إلى ما طلبوا فكذَّبوا وهلكوا. وأعطينا ثمود - وهم قوم صالح- معجزة واضحة وهي الناقة، فكفروا بها فأهلكناهم. وما إرسالنا الرسل بالآيات والعبر والمعجزات التي جعلناها على أيديهم إلا تخويف للعباد؛ ليعتبروا ويتذكروا.

    وقال تعالى:{ وقالوا لن نؤمن لك حتى تَفجُرَ لنا من الأرض ينبوعاً أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً. أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً. أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً} [الإسراء: 90 - 93]

    قال المفسرون: ولما أعجز القرآن المشركين وغلبهم أخذوا يطلبون معجزات وَفْق أهوائهم، فقالوا: لن نصدقك -أيها الرسول- ونعمل بما تقول حتى تفجر لنا من أرض مكة عينًا جارية، أو تكون لك حديقة فيها أنواع النخيل والأعناب، وتجعل الأنهار تجري في وسطها بغزارة أو تسقط السماء علينا قطعًا كما زَعَمْتَ، أو تأتي لنا بالله وملائكته، فنشاهدهم مقابلة وعِيانًا ، أو يكون لك بيت من ذهب، أو تصعد في درج إلى السماء، ولن نصدِّقك في صعودك حتى تعود، ومعك كتاب من الله منشور نقرأ فيه أنك رسول الله حقاً. قل -أيها الرسول- متعجبًا مِن تعنُّت هؤلاء الكفار: سبحان ربي!! هل أنا إلا عبد من عباده مبلِّغ رسالته؟ فكيف أقدر على فعل ما تطلبون؟

    قال ابن كثير: عن ابن عباس قال: سأل أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً، وأن يُنحِّي عنهم الجبال فيزدرعوا. فقيل له: إن شئت أن تستأني(4) بهم، وإن شئت أن تؤتيهم الذي سألوا؛ فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت من قبلهم. قال: «لا بل أستأني بهم».

    فأنزل الله تعالى: {وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا} [الإسراء: 59]

    رواه أحمد والنسائي.

    وفي رواية لأحمد عنه قال: قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهباً، ونؤمن بك. قال: «وتفعلوا؟» . قالوا: نعم.

     

    قال: فدعا، فأتاه جبريل فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام، ويقول لك: إن شئت أصبح الصفا لهم ذهبا، فمن كفر منهم بعد ذلك أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب الرحمة والتوبة. قال: «بل باب التوبة والرحمة»

    وإسناد كل منهما جيد

    وقد جاء مرسلاً عن جماعة من التابعين، منهم: سعيد بن جبير، وقتادة، وابن جريج، وغير واحد. انتهى من صحيح السيرة النبوية للألباني رحمه الله، باختصاروزيادة تفسيرالآيات.

    قلت: هذا الحديث يدل على عظم رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأمة وشفقته عليهم ونصحه لهم صلى الله عليه وسلم.

    كما وصفه الله تبارك وتعالى في كتابه، قال: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) }

    {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} يقول تعالى ممتناً على المؤمنين بما أرسل إليهم رسولاً من أنفسهم، أي: من جنسهم وعلى لغتهم.

    {عزيز عليه ما عنتم} أي: يعز عليه أي شديد عليه الشيء الذي يعنت أمته أي يشق عليها؛ ولهذا كان دائماً يسعى للتخفيف عليهم ورفع المشقة عنهم كما في فرض الصلوات، راجع ربه تبارك وتعالى حتى صرن خمسة بدل خمسين صلاة.

    {حريص عليكم} أي: على هدايتكم، ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم.

    {بالمؤمنين رءوف رحيم. فإن تولوا} إن أعرضوا عن الإيمان وناصبوك الحرب {فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم} أي الله كافيني، واعتمادي عليه تبارك وتعالى.

    ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

    (1) في طغيانهم أي في تجاوزهم الحد في الكفر، يعمهون يترددون.

    (2) الغي: الضلال والخيبة.

    (3) يسقطون.

    (4) أي تنتظر.

    كتبه أبو الحسن علي الرملي

    1 / 1 /1440 هجري

جميع الحقوق متاحة بشرط العزو للموقع © 2024 موقع معهد الدين القيم