• نوع الفتوى: عقيدة
  • عنوان الفتوى: كلُّ شيء مقدَّرٌ؛ فلماذا نعمل؟
  • رقم الفتوى: 1442
  • تاريخ الإضافة: 11 رجب 1440
  • السؤال
    يحتج البعض بآيات من كتاب الله؛كقوله عز وجل:{ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها}؛ على أن كل شيء مكتوب على العباد ومقدَّرٌ لهم؛ ففيمَ العَمَلُ،وسواء عملنا أو لم نعمل؛ فكل سيكون في المكان الذي كتبه الله له قبل أن يخلقه؛ فهل هذا الكلام صحيح؟ وجهونا حفظكم الله
  • الاجابة

    لا يجوز أن نجعل قضاء الله وقدره حجةً لنا على ترك أوامره، وفعل نواهيه؛ بل يجب أن نعلم ونؤمن أن الله أقام علينا الحجة بإرسال الرسل وإنزال الكتب.

    والعبد مخَيَّرٌ في فعل الطاعات والمعاصي، وهو أيضاً مأمورٌ بأن يطيع الله سبحانه وتعالى، ومنهي عن عصيانه سبحانه وتعالى.

    فليس لك أن تحتج على المعصية بالقدر؛ لأن الله سبحانه وتعالى أعطاك قدرة وإرادة، وبيَّن لك طريق الحق وأمرك باتباعه، وعندك قدرة على الاختيار؛ فلم تجبر عليها، فواجبك أن تختار طريق الحق وتترك طريق الباطل.

    ويصح الاحتجاج بالقدر على المصائب التي تقع ولا اختيار لك فيها؛ فتقول: قدر الله وما شاء فعل، وتعلم أنه لا اختيار لك فيها؛ فتصبر على ما أصابك، وتصبِّر نفسك على الإيمان بالقدر.

    وقد قال تعالى:{ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} ، وقال: {فاتقوا الله ما استطعتم}،وقال عز وجل: { اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم}؛ فدلّ هذا على أن للعبد فعلاً وكسباً، يُجزى على حسنه بالثواب، وعلى سيئه بالعقاب، وهو واقعٌ بقضاء الله وقدره.

    فالله سبحانه وتعالى لم يضطره إلى ترك طاعة ولا أكرهه على فعل معصية وهو لا يريد ذلك، ولا يكون هذا من رب العالمين تبارك وتعالى ؛ مع أنه هو الخالق للعباد وأفعالهم؛ لكن العباد يفعلون بقدرتهم وإرادتهم؛ لكن لا تخرج مشيئتهم عن مشيئة الله وإرادته؛ يعني لو شاء الله شيئاً وشاء العباد شيئاً يخالف مشيئته؛ فلا يكون ما شاءه العباد أبداً؛ لكنه سبحانه وتعالى في نفس الوقت لا يجبر الإنسان على فعل المعصية؛ وهو لا يريد أن يفعلها، ولا يجبره على الطاعة وهو يريد أن يعصي.

    فلا متعلّق لأحد بمسألة القضاء والقدر؛ فكل منا يدرك الفرق بين الأشياء التي يفعلها باختياره، والأشياء التي يضطر إليها اضطراراً، فالأشياء التي تضطر إليها اضطراراً؛ لا يحاسبك الله عليها، ولا يؤاخذك بها، لكن ما تفعله باختيارك؛ تحاسب عليه.

    فأنت تدرك الفرق بين ما تفعله مضطراً إليه، وما تفعله مختاراً له؛ فأنت تفعل الطاعات والمعاصي باختيارك ومشيئتك.
    والاحتجاج بالقدر على المعاصي فعل المشركين، قال تعالى:  {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)} الأنعام.

    قال ابن عثيمين رحمه الله في شرح ثلاثة الأصول (ص 113) رداً على من احتج بالقدر على المعاصي، قال: والإيمان بالقدر على ما وصفنا لا يمنح العبد حجة على ما ترك من الواجبات أو فعل من المعاصي، وعلى هذا فاحتجاجه به باطل من وجوه:

    الأول: قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [سورة الأنعام، الآية: 148] ولو كان لهم حجة بالقدر ما أذاقهم الله بأسه.

    الثاني: قَوْلُهُ تَعَالَى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [سورة النساء، الآية: 165] ولو كان القدر حجة للمخالفين لم تنتف بإرسال الرسل؛ لأن المخالفة بعد إرسالهم واقعة بقدر الله تعالى.

    الثالث: ما رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من النار أو الجنة. فقال رجل من القوم: ألا نتكل يارسول الله؟ قال لا أعملوا فكل ميسر، ثم قرأ {فأما من أعطى وأتقى} الآية. وفي لفظ لمسلم: "فكل ميسر لما خلق له" فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعمل ونهى عن الاتكال على القدر.

    الرابع: أن الله تعالى أمر العبد ونهاه، ولم يكلفه إلا ما يستطيع، قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [سورة التغابن، الآية: 16] وقال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [سورة البقرة، الآية: 286] ولو كان العبد مجبراً على الفعل لكان مكلفاً بما لا يستطيع الخلاص منه، وهذا باطل، ولذلك إذا وقعت منه المعصية بجهل، أو نسيان، أو إكراه؛ فلا إثم عليه؛ لأنه معذور.

    الخامس: أن قدر الله تعالى سر مكتوم لا يعلم به إلا بعد وقوع المقدور، وإرادة العبد لما يفعله سابقة على فعله، فتكون إرادته الفعل غير مبنية على علم منه بقدر الله، وحينئذ تنتفى حجته إذ لا حجة للمرء فيما لا يعلمه.

    السادس: أننا نرى الإنسان يحرص على ما يلائمه من أمور دنياه حتى يدركه، ولا يعدل عنه إلى ما لا يلائمه، ثم يحتج على عدوله بالقدر، فلماذا يعدل عما ينفعه في أمور دينه إلى ما يضره ثم يحتج بالقدر؟ ‍‍‍‍‍‍‍ أفليس شأن الأمرين واحداً؟!
    وإليك مثالاً يوضح ذلك: لو كان بين يدي الإنسان طريقان أحدهما ينتهى به إلى بلد كلها فوضى، وقتل، ونهب، وانتهاك أعراض، وخوف، وجوع، والثاني ينتهي به إلى بلد كلها نظام، وأمن مستتب، وعيش رغيد، واحترام للنفوس والأعراض والأموال، فأي الطريقين يسلك؟
    إنه سيسلك الطريق الثاني الذي ينتهي به إلى بلد النظام والأمن، ولا يمكن لأي عاقل أبداً أن يسلك طريق بلد الفوضى، والخوف، ويحتج بالقدر، فلماذا يسلك في أمر الآخرة طريق النار دون الجنة ويحتج بالقدر؟!
    مثال آخر: نرى المريض يؤمر بالدواء فيشربه ونفسه لا تشتهيه، وينهي عن الطعام الذي يضره فيتركه ونفسه تشتهيه، كل ذلك طلباً للشفاء والسلامة، ولا يمكن أن يمتنع عن شرب الدواء أو يأكل الطعام الذي يضره ويحتج بالقدر، فلماذا يترك الإنسان ما أمر الله ورسوله، أو يفعل ما نهى الله ورسوله ثم يحتج بالقدر؟!

    السابع: أن المحتج بالقدر على ما تركه من الواجبات أو فعله من المعاصي، لو اعتدى عليه شخص فأخذ ماله أو أنتهك حرمته ثم أحتج بالقدر، وقال: لا تلمني فإن اعتدائي كان بقدر الله، لم يقبل حجته، فكيف لا يقبل الاحتجاج بالقدر في اعتداء غيره عليه، ويحتج به لنفسه في اعتدائه على حق الله تعالى؟ ‍
    ويذكر أن- أمير المؤمنين - عمر بن الخطاب رضي الله عنه، رفع إليه سارق استحق القطع، فأمر بقطع يده، فقال: مهلاً يا أمير المؤمنين، فإنما سرقت بقدر الله. فقال: ونحن إنما نقطع بقدر الله. انتهى  والله أعلم 

     

     

جميع الحقوق متاحة بشرط العزو للموقع © 2024 موقع معهد الدين القيم