• نوع الفتوى: عقيدة
  • عنوان الفتوى: الإراد الكونية والإرادة الشرعية
  • رقم الفتوى: 1471
  • تاريخ الإضافة: 12 رجب 1440
  • السؤال
    حفظكم الله، نقرأ في كتاب الله آيات الإرادة؛ فيشكل علينا أن فيها مثلاً: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيِّقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء}، وقوله عز وجل:{ وإذا أراد الله بقومٍ سوءً فلا مردَّ له}؛ فكيف نجمع بينها وبين قول الله تبارك وتعالى { يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} وقوله {والله يريد أن يتوب عليكم}، وكيف يريد لبعض عباده الضلال وهو لا يحبه؟
  • الاجابة

    إرادة الله إرادتان؛ إرادة كونية، وإرادة شرعية

    الإرادة الكونية: وهي التي بمعنى المشيئة: {فمن يُرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء}[الأنعام: 125]؛ هذه الإرادة بمعنى المشيئة، والله سبحانه وتعالى إذا أراد شيئاً؛ فإنما يقول له كن فيكون، هذه هي الإرادة الكونية، كل مايحصل في هذا الكون فقد أراده الله كوناً؛ سواء كان معصية أو طاعة، سواء كان يحبه أو يكرهه، ومثاله الذي يمثل به العلماء كثيراً: كفر أبي لهب؛ أراده الله كوناً فوقع.

    وأما الإرادة الشرعية: وهي التي بمعنى المحبة، كما قال تبارك وتعالى: {والله يريد أن يتوب عليكم}[النساء: 27] هذه إرادة شرعية، فكل ما أمرنا الله تبارك وتعالى بفعله في الكتاب والسنة؛ فإن الله يحبه ويريده إرادة شرعية؛ فهو يحبه ويرضاه.

    علماً أنه ربما يحصل وربما لا يحصل في الكون، ربما يوجد وربما لا يوجد.

    مثلاً: أراد الله من العباد جميعاً أن يؤمنوا إرادة شرعية فهو يحب ذلك منهم؛ فهل آمنوا جميعاً؟ آمن البعض وكفر البعض، فهذا الإيمان يحبه الله ويرضاه من الناس؛ ولكنه ربما يقع وربما لا يقع، فوقع مثلاً من أبي بكر، ولم يقع من أبي لهب.

    بينما الإرادة الكونية؛ لا بد أن تقع؛ ولكنها تكون فيما يحبه الله وفيما لا يحبه؛ هذا الفرق بين الإرادتين، وبسبب عدم التفريق بينهما ضل من ضل من الفرق، وبهذا التفريق تزول إشكالات كثيرة.
    وأما إرادته الضلال لبعض عباده كوناً، مع عدم محبته؛ فلأن وقوعه تترتب عليه مصالح عظيمة، فيكون محبوباً من وجه ومكروهاً من وجه. والله أعلم 

    قال ابن عثيمين في شرحه على الواسطية (1/ 222): الإرادة تنقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: إرادة كونية: وهذه الإرادة مرادفة تماماً للمشيئة، فـ (أراد) فيها بمعنى (شاء)، وهذه الإرادة:
    أولاً: تتعلق فيما يحبه الله وفيما لا يحبه.
    وعلى هذان فإذا قال قائل: هل أراد الله الكفر؟ فقل: بالإرادة الكونية نعم أراده، ولو لم يرده الله عز وجل، ما وقع.
    ثانياً: يلزم فيها وقوع المراد، يعني: أن ما أراده الله فلا بد أن يقع، ولا يمكن أن يتخلف.

    القسم الثاني: إرادة شرعية: وهي مرادفة للمحبة، فـ (أراد) فيها بمعنى (أحب)، فهي:
    أولاً: تختص بما يحبه الله، فلا يريد الله الكفر بالإرادة الشرعية ولا الفسق.
    ثانياً: أنه لا يلزم فيها وقوع المراد، بمعنى: أن الله يريد شيئاً ولا يقع، فهو سبحانه يريد من الخلق أن يعبدوه، ولا يلزم وقوع هذا المراد، قد يعبدونه وقد لا يعبدونه، بخلاف الإرادة الكونية.

    فصار الفرق بين الإرادتين من وجهين:

    1 - الإرادة الكونية يلزم فيها وقوع المراد، والشرعية لا يلزم.
    2 - الإرادة الشرعية تختص فيما يحبه الله، والكونية عامة فيما يحبه وما لا يحبه.

    فإذا قال قائل: كيف يريد الله تعالى كوناً ما لا يحبه، بمعنى: كيف يريد الكفر أو الفسق أو العصيان وهو لا يحبه؟!

    فالجواب: أن هذا محبوب إلى الله من وجه مكروه إليه من وجه آخر، فهو محبوب إليه لما يتضمنه من المصالح العظيمة، مكروه إليه لأنه معصية.
    ولا مانع من أن يكون الشيء محبوباً مكروها باعتبارين، فها هو الرجل يقدم طفله الذي هو فلذة كبده وثمرة فؤاده، يقدمه إلى الطبيب ليشق جلده ويخرج المادة المؤذية فيه ولو أتى أحد من الناس يريد أن يشقه بظفره وليس بالمشرط، لقاتله، لكن هو يذهب إلى الطبيب ليشقه، وهو ينظر إليه، وهو فرح مسرور، يذهب به إلى الطبيب ليحمي الحديد على النار حتى تلتهب حمراء، ثم يأخذها ويكوي بها ابنه، وهو راض بذلك، لماذا يرضى بذلك وهو ألم للابن؟ لأنه مراد لغيره للمصلحة العظيمة التي تترتب على ذلك.

    ونستفيد بمعرفتنا للإرادة من الناحية المسلكية أمرين:

    الأمر الأول: أن نعلق رجاءنا وخوفنا وجميع أحوالنا وأعمالنا بالله، لأن كل شيء بإرادته وهذا يحقق لنا التوكل.
    الأمر الثاني: أن نفعل ما يريده الله شرعاً، فإذا علمت أنه مراد لله شرعاً ومحبوب إليه، فإن ذلك يقوي عزمنا على فعله.
    هذا من فوائد معرفتنا بالإرادة من الناحية المسلكية، فالأول باعتبار الإرادة الكونية، والثاني: باعتبار الإرادة الشرعية. انتهى 

    وقال ابن أبي العز الحنفي في شرحه على الطحاوية (70): والمحققون من أهل السنة يقولون: الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة قدرية كونية خلقية، وإرادة دينية أمرية شرعية.
    فالإرادة الشرعية هي المتضمنة للمحبة والرضا، والكونية هي المشيئة الشاملة لجميع الحوادث.
    وهذا كقوله تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء}.
    وقوله تعالى عن نوح عليه السلام: {ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم}، وقوله تعالى: {ولكن الله يفعل ما يريد}.

    وأما الإرادة الدينية الشرعية الأمرية، فكقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}[البقرة: 185]، وقوله تعالى: {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم}[النساء: 26] ، وقوله تعالى: {والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيماً}[النساء: 27]، وقوله تعالى: {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً}[النساء: 28]، وقوله تعالى: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم}[المائدة: 6]، وقوله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً}[الأحزاب: 33].
    فهذه الإرادة هي المذكورة في مثل قول الناس لمن يفعل القبائح: هذا يفعل ما لا يريده الله، أي: لا يحبه ولا يرضاه ولا يأمر به.
    وأما الإرادة الكونية فهي الإرادة المذكورة في قول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. انتهى

    وقال (ص 228): ومنشأ الضلال: من التسوية بين (المشيئة والإرادة)، وبين (المحبة والرضا)، فسوى بينهما الجبرية والقدرية، ثم اختلفوا، فقالت الجبرية: الكون كله بقضائه وقدره، فيكون محبوباً مرضياً، وقالت القدرية النفاة: ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضية له، فليست مقدرة ولا مقضية، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه.

     وقد دل على الفرق بين المشيئة والمحبة؛ الكتاب والسنة والفطرة الصحيحة.
    أما نصوص المشيئة والإرادة من الكتاب، فقد تقدم ذكر بعضها(1). وأما نصوص المحبة والرضا، فقال تعالى: {والله لا يحب الفساد}[البقرة: 205]، {ولا يرضى لعباده الكفر}[الزمر: 7]، وقال تعالى عقيب ما نهى عنه من الشرك والظلم والفواحش والكبر: {كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها}[الإسراء: 38].
    وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال».
    وفي المسند: «إن الله يحب أن يؤخذ برخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته»، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك».

    فتأمل ذكر استعاذته بصفة الرضا من صفة السخط، وبفعل المعافاة من فعل العقوبة، فالأول الصفة، والثاني لأثرها المرتب عليها، ثم ربط ذلك كله بذاته سبحانه، وأن ذلك كله راجع إليه وحده، لا إلى غيره، فما أعوذ منه واقع بمشيئتك وإرادتك، وما أعوذ به من رضاك ومعافاتك هو بمشيئتك وإرادتك، إن شئت أن ترضى عن عبدك وتعافيه، وإن شئت أن تغضب عليه وتعاقبه، فإعاذني مما أكره ومنعه أن يحل بي، هي بمشيئتك أيضاً، فالمحبوب والمكروه كله بقضائك ومشيئتك، فعياذي بك منك، وعياذي بحولك وقوتك ورحمتك مما يكون بحولك وقوتك وعدلك وحكمتك، فلا أستعيذ بغيرك من غيرك، ولا أستعيذ بك من شيء صادر عن غير مشيئتك، بل هو منك. فلا يعلم ما في هذه الكلمات من التوحيد والمعارف والعبودية، إلا الراسخون في العلم بالله ومعرفته ومعرفة عبوديته.

    فإن قيل: كيف يريد الله أمرا ولا يرضاه ولا يحبه؟ وكيف يشاؤه ويكونه؟ وكيف تجتمع إرادته له وبغضه وكراهته؟

    قيل: هذا السؤال هو الذي افترق الناس لأجله فرقاً، وتباينت طرقهم وأقوالهم. فاعلم أن المراد نوعان: مراد لنفسه، ومراد لغيره.

    فالمراد لنفسه، مطلوب محبوب لذاته وما فيه من الخير، فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد.

    والمراد لغيره، قد لا يكون مقصوداً لما يريد، ولا فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته، وإن كان وسيلة إلى مقصوده ومراده، فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته، مراد له من حيث قضاؤه وإيصاله إلى مراده، فيجتمع فيه الأمران: بغضه وإرادته، ولا يتنافيان، لاختلاف متعلقهما. وهذا كالدواء الكريه، إذا علم المتناول له أن فيه شفاءه، وقطع العضو المتآكل، إذا علم أن في قطعه بقاء جسده، وكقطع المسافة الشاقة، إذا علم أنها توصل إلى مراده ومحبوبه. بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه وإرادته بالظن الغالب، وإن خفيت عنه عاقبته، فكيف بمن لا يخفى عليه خافية، فهو سبحانه يكره الشيء، ولا ينافي ذلك إرادته لأجل غيره، وكونه سببا إلى أمر هو أحب إليه من فوته.
    من ذلك: أنه خلق إبليس، الذي هو مادة لفساد الأديان والأعمال والاعتقادات والإرادات، وهو سبب لشقاوة كثير من العباد، وعملهم بما يغضب الرب سبحانه، تبارك وتعالى، وهو الساعي في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه. ومع هذا فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب تعالى ترتبت على خلقه، ووجودها أحب إليه من عدمها...انتهى 
    ـــــــــــــــــــــــــ

    (1) قال قبل ذلك: وأما الأدلة من الكتاب والسنة: فقد قال تعالى: {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين}، وقال تعالى: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}، وقال تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً}، وقال تعالى: {من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم}، وقال تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء}. انتهى 

     

جميع الحقوق متاحة بشرط العزو للموقع © 2024 موقع معهد الدين القيم