• نوع الفتوى: عقيدة
  • عنوان الفتوى: الشفاعة
  • رقم الفتوى: 1525
  • تاريخ الإضافة: 19 رجب 1440
  • السؤال
    يقول الله في كتابه:{يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا}، وقوله:{من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه}،، وقوله: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى}، ويقول:{قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}،فالآيات الأولى والثانية والثالثة فيها إثبات للشفاعة، وفي الرابعة رد للشفاعة جميعها لله، وفي قوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} نفي للشفاعة. وكذا في السنة أحاديث تثبت شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعة النبيين والملائكة والصالحين والشهداء؛ فكيف نوفق بين النصوص؟
  • الاجابة

    أولاً: الشفاعة هي: التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة.

    ثانياً: نذكر عقيدة أهل السنة والجماعة في الشفاعة.

    الشفاعة يوم القيامة نوعان:

    شفاعة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ وهي الشفاعة العظمى في أهل الموقف لقيام الحساب، عندما يحشر الناس يوم القيامة ، وتقترب منهم الشمس قدر ميل؛ فيغرقون في عرقهم ؛ كل على حسب ذنوبه، منهم من يلجمه العرق إلجاماً؛ لكثرة ذنوبه، فيشتد الأمر عليهم كثيراً؛ فيأتون إلى الأنبياء كي يشفعوا لهم عند الله ليبدأ الحساب ويخلصهم من ذلك الموقف؛ فيقول كل نبي : نفسي نفسي؛ ويذكر ذنباً، إلى أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيقول: " أنا لها ، أنا لها" ويذهب ويسجد عند رب العزة تبارك وتعالى ثم يأذن له بالشفاعة.

    وشفاعة عامة له صلى الله عليه وسلم ولغيره من الأنبياء والملائكة والصالحين والشهداء؛ فيمن دخل النار من المؤمنين من أهل الكبائر؛ أن يخرجوا منها؛ ففي الصحيحين وغيرهما أحاديث كثيرة تدل على الشفاعة في المذنبين من المؤمنين وخروجهم من النار؛ كقوله عليه الصلاة والسلام: " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" .

    وشفاعة النبي صلى الله  عليه وسلم وشفاعة الأنبياء والملائكة والصالحين؛ كلها ثابتة في أحاديث كثيرة متواترة؛ لم ينكرها إلا الخوارج والمعتزلة بناء على أصلهم أن صاحب الكبيرة لا يخرج من النار .

    أما قول الله تعالى : {يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا}، وقوله:{من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه}؛ ففيهما إثبات للشفاعة؛ كما سبق من نصوص؛ ولكن لها شروط:

    الشرط الأول: إذن الله للشافع أن يشفع؛ فلا أحد له قدرة على أن يشفع إلا إن أذن الله له بذلك.

    الشرط الثاني: أن يرضى أن يشفع في المشفوع فيه؛ فلا يشفع في أحد إلا أن يرضى الله سبحانه وتعالى لفلان أن يشفع في فلان؛ وهو قوله تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى}، فأما الكافر؛ فلا شفاعة له؛ كما قال عز وجل:{ فما تنفعهم شفاعة الشافعين}، فالشفاعة تكون للموحد فقط، وخص من ذلك أبو طالب، شفع فيه النبي صلى الله عليه وسلم فخفف الله عنه العذاب.

    وأما الآية الرابعة؛ وهي قوله عز وجل: {قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}؛ فقال ابن كثير في تفسيرها: " قُلْ: أَيْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الزَّاعِمِينَ أَنَّ مَا اتَّخَذُوهُ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، أَخْبِرْهُمْ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لَا تَنْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَاهُ وَأَذِنَ لَهُ، فَمَرْجِعُهَا كُلِّهَا إِلَيْهِ، {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ}".

    فخلاصة القول أن الشفاعة ثابتة، ولكنها لا تكون إلا بإذن الله ورضاه، ولا تكون إلا للموحد، لا تكون لكافر إلا أبا طالب شفاعة تخفيف عذاب لا شفاعة خروج من النار؛ فالنار لا يخرج منها إلا من دخلها من الموحدين . هذا ما تدل عليه مجموع الأدلة كلها.

    وخالف أهل السنة في الشفاعة طائفتان:
    الأولى: غلاة الصوفية ومن كان على طريقتهم، أثبتوها وصاروا يطلبونها من الأولياء، من خلال التقرب إليهم بالعبادة، فعبدوهم مع الله ليشفعوا لهم؛ كما كان يفعل المشركون، قال تعال:
     {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3]، وقال: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18]

    والثانية: المعتزلة والخوارج نفوها كي لا تعارض عقيدتهم في خلود أصحاب الكبائر من الموحدين في نار جهنم.
    وأهل السنة وسط بين الطائفتين. والله أعلم 

    قال الآجري في الشريعة (3/ 1198): باب وجوب الإيمان بالشفاعة، قال محمد بن الحسين - يعني نفسه- : اعلموا رحمكم الله، أن المنكر للشفاعة يزعم أن من دخل النار فليس بخارج منها، وهذا مذهب المعتزلة يكذبون بها، وبأشياء سنذكرها إن شاء الله تعالى، مما لها أصل في كتاب الله عز وجل، وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنن الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان، وقول فقهاء المسلمين فالمعتزلة يخالفون هذا كله، لا يلتفتون إلى سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا إلى سنن أصحابه رضي الله عنهم وإنما يعارضون بمتشابه القرآن، وبما أراهم العقل عندهم، وليس هذا طريق المسلمين وإنما هذا طريق من قد زاغ عن طريق الحق وقد لعب به الشيطان، وقد حذرنا الله عز وجل ممن هذه صفته، وحذرناهم النبي صلى الله عليه وسلم وحذرناهم أئمة المسلمين قديماً وحديثاً. انتهى ثم ذكر الأدلة وأقوال السلف في المسألة.
    وذكر أبواباً في الشفاعة، وكذلك بوب اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (6/ 1160): سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة لأمته، وأن أهل الكبائر إذا ماتوا عن غير توبة يدخلهم الله إن شاء النار، ثم يخرجهم منها بفضل رحمته، ويدخلهم الجنة.انتهى

     وكذلك فعل ابن خزيمة في كتاب التوحيد (2/ 650) وغيرهم من أهل السنة في عقائدهم.

    ونذكر لك تتمة مبحث الشفاعة عند أهل السنة من كلام العلامة ابن عثيمين رحمه الله.

    قال في شرح العقيدة الواسطية (2/ 168):  والشفاعة تنقسم إلى قسمين: شفاعة باطلة، وشفاعة صحيحة.
    فالشفاعة الباطلة: ما يتعلق به المشركون في أصنامهم؛ حيث يعبدونهم ويزعمون أنهم شفعاء لهم عند الله؛ كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]، ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3].
    لكن هذه الشفاعة باطلة لا تنفع؛ كما قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48].
    والشفاعة الصحيحة ما جمعت شروطًا ثلاثة:
    الأول: رضي الله عن الشافع.
    الثاني: رضاه عن المشفوع له، لكن الشفاعة العظمى في الموقف عامة لجميع الناس من رضي الله عنهم ومن لم يرض عنهم.
    الثالث: إذنه في الشفاعة.
    والإذن لا يكون إلا بعد الرضى عن الشافع والمشفوع له.

    ودليل ذلك قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26]، ولم يقل: عن الشافع، ولا: المشفوع له؛ ليكون أشمل.
    وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109].
    وقال سبحانه: {وَلَا يَشْفَعُونَ إلا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28].
    فالآية الأولى تضمنت الشروط الثلاثة، والثانية تضمنت شرطين، والثالثة تضمنت شوطًا واحدًا.

    وقال: للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث شفاعات:
    1 - الشفاعة العظمى.
    2 - والشفاعة لأهل الجنة ليدخلوا الجنة.
    3 - والشفاعة فيمن استحق النار ألا يدخلها، وفيمن دخلها أن يخرج منها.

    قال المؤلف مبينًا هذه الثلاث: "أما الشفاعة الأولى؛ فيشفع في أهل الموقف، حتى يقضى بينهم بعد أن يتراجع الأنبياء: آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم عن الشفاعة حتى تنتهي إليه".

    قال: قوله: "بعد أن يتراجع الأنبياء؛ آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم عن الشفاعة": أي: يردها كل واحد منهم إلى الآخر.
    شرح هذه الجملة ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون فيم ذلك؟ يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد؛ يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، وتدنو منهم الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعضهم لبعض: عليكم بآدم! فيأتونه، فيقولون له: أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك؛ ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة، فعصيته؛ نفسي نفسي نفسي! اذهبوا إلى نوح! فيأتون نوحًا، فيقولون: يا نوح! إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبدًا شكورًا؛ اشفع لنا إلى ربك؛ ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول كما قال آدم في غضب الله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي؛ اذهبوا إلى إبراهيم! فيأتون إبراهيم، فيقولون: يا إبراهيم! أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض؛ اشفع لنا إلى ربك؛ ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول كما قال آدم في غضب الله، وإني قد كذبت ثلاث كذبات؛ اذهبوا إلى موسى! فيأتون موسى، فيقولون: يا موسى! أنت رسول الله، فضلك الله برسالته وبكلامه على الناس؛ اشفع لنا إلى ربك؛ ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول كما قال آدم في غضب الله، وإني قد قتلت نفسًا لم أومر بقتلها؛ اذهبوا إلى عيسى! فيأتون عيسى، فيقولون: يا عيسى! أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وكلمت الناس في المهد صبيًّا؛ اشفع لنا إلى ربك؛ ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول كما قال آدم في غضب الله، ولم يذكر ذنبًا، اذهبوا إلى محمد! وكلهم يقول كما قال آدم: نفسي نفسي نفسي! فيأتون محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، فيقولون: يا محمد! أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؛ اشفع لنا إلى ربك؛ ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فأنطلق، فآتي تحت العرش، فأقع ساجدًا لربي عز وجل، ثم يفتح الله عليَّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئًا لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك؛ سلتعطه، واشفع تشفع ... " وذكر تمام الحديث.

    وقال: وهذه الشفاعة العظمى لا تكون لأحد أبدًا إلا للرسول عليه الصلاة والسلام، وهي أعظم الشفاعات؛ لأن فيها إراحة الناس من هذا الموقف العظيم والكرب والغم.

    وقال: قوله: "وأما الشفاعة الثانية؛ فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة".
    وذلك أن أهل الجنة إذا عبروا الصراط؛ وقفوا على قنطرة، فيقتص لبعضهم من بعض، وهذا القصاص غير القصاص الذي كان في عَرَصات القيامة، بل هو قصاص أخص، يطهر الله فيه القلوب، ويزيل ما فيها من أحقاد وضغائن؛ فإذا هُذِّبوا ونُقّوا؛ أُذن لهم في دخول الجنة.
    ولكنهم إذا أتوا إلى الجنة؛ لا يجدونها مفتوحة كما يجد ذلك أهل النار؛ فلا تفتح الأبواب، حتى يشفع النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل الجنة أن يدخلوها، فيدخل كل إنسان من باب العمل الذي يكون أكثر اجتهادًا فيه من غيره، وإلا، فإن المسلم قد يدعى من كل الأبواب.
     وهذه الشفاعة يشير إليها القرآن؛ لأن الله قال في أهل الجنة: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73]، وهذا يدل أن هناك شيئًا بين وصولهم إليها وبين فتح الأبواب. 

    وهو صريح فيما رواه مسلم عن حذيفة وأبي هريرة رضي الله عنهما؛ قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يجمع الله تبارك وتعالى الناس، فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة، فيأتون آدم، فيقولون: يا أبانا! استفتح لنا الجنة ... " وذكر الحديث، وفيه: "فيأتون محمدًا، فيقوم، فيؤذن له. . ." الحديث.

    قوله: "وهاتان الشفاعتان خاصتان له"، يعني: الشفاعة في أهل الموقف أن يقضى بينهم، والشفاعة في دخول الجنة.
    "خاصتان له"؛ أي: للنبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولذلك يعتذر عنهما آدم وأولو العزم من الرسل.

    وهناك أيضًا شفاعة ثالثة خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، لا تكون لغيره، وهي الشفاعة في عمه أبي طالب.
    وأبو طالب -كما في "الصحيحين" وغيرهما- مات على الكفر...
    وقد أحسن إلى الرسول عليه الصلاة والسلام إحسانًا كبيرًا مشهورًا، وكان من حكمة الله عزَّ وجلَّ أن بقي على كفره؛ لأنه لولا كفره؛ ما حصل هذا الدفاع عن الرسول عليه الصلاة والسلام، بل كان يؤذى كما يؤذى الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن بجاهه العظيم عند قريش وبقائه على دينهم صاروا يعظمونه وصار للنبي عليه الصلاة والسلام جانب من الحماية بذلك.

    فأبو طالب أذن الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يشفع فيه، مع أنه كافر. 

    فيكون هذا مخصوصًا من قوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48]، ولكنها شفاعة لم تخرجه من النار، بل كان في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه؛ قال الرسول عليه الصلاة والسلام: "ولولا أنا؛ لكان في الدرك الأسفل كان النار"، وليس هذا من أجل شخصية أبي طالب، لكن من أجل ما حصل من دفاعه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه.

    قوله: "وأما الشفاعة الثالثة، فيشفع فيمن استحق النار، وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم، فيشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها".
    قوله: "وأما الشفاعة الثالثة، فيشفع فيمن استحق النار"؛ أي: من عصاة المؤمنين.
    وهذه لها صورتان: يشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها، وفيمن دخلها أن يخرج منها.
    أما فيمن دخلها أن يخرج منها؛ فالأحاديث في هذا كثيرة جدًّا، بل متواترة.
    وأما فيمن استحقها أن لا يدخلها؛ فهذه قد تستفاد من دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - للمؤمنين بالمغفرة والرحمة على جنائزهم؛ فإنه من لازم ذلك أن لا يدخل النار؛ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: "اللهم! اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين ... " الحديث.
    لكن هذه شفاعة في الدنيا؛ كما في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "ما من رجل مسلم يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلًا لا يشركون بالله شيئًا؛ إلا شفعهم الله فيه".

    وهذه الشفاعة ينكرها من أهل البدع طائفتان؛ المعتزلة والخوارج؛ لأن المعتزلة والخوارج مذهبهما في فاعل الكبيرة أنه مخلد في نار جهنم، فيرون من زنى كمن أشرك بالله؛ لا تنفعه الشفاعة، ولن يأذن الله لأحد بالشفاعة له.
    وقولهم مردود بما تواترت به الأحاديث في ذلك.
    قوله: "وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم"؛ فيشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها، يعني: أنها ليست خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، بل تكون للنبيين؛ حيث يشفعون في عصاة قومهم، وللصديقين يشفعون في عصاة أقاربهم وغيرهم من المؤمنين، وكذلك تكون لغيرهم من الصالحين، حتى يشفع الرجل في أهله وفي جيرانه وفيما أشبه ذلك. انتهى باختصار. والله أعلم 

     

جميع الحقوق متاحة بشرط العزو للموقع © 2024 موقع معهد الدين القيم