• نوع الفتوى: فقه
  • عنوان الفتوى: حرم المدينة وما يتعلق به
  • رقم الفتوى: 2761
  • تاريخ الإضافة: 6 ذو الحجة 1440
  • السؤال
    هل المدينة حرم؟ وإن كانت كذلك فماذا يترتب على تحريمها ؟
  • الاجابة

    نعم المدينة حرم، فالتحريم ليس فقط لمكة بل كذلك للمدينة؛ لقوله ﷺ: «المدينة حرم ما بين عَيْرٍ إلى ثور»([1]) ، وعَيْرٌ وثور: جبلان ، وقال ﷺ: « إنَّ إبراهيم حرَّم مكة ودعا لها، وإني حرَّمت المدينة كما حرَّم إبراهيم مكة »([2]) ، وفي رواية: « المدينة حرم من كذا إلى كذا لا يُقطع شجرها ولا يُحْدَث فيها حدثٌ، من أحدث حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين»([3]) ،وفي رواية: «أن لا يُهراق فيها دم، ولا يُحمل فيها سلاح لقتال ولا يُخبط فيها شجرة إلّا لعلف »([4]). ومعنى يُخبط: يُضرب بالعصا ونحوها ليسقط ورقها.

     فهذا كله يدل على أنَّ المدينة مُحرَّمة كتحريم مكة، ومعالمها أيضاً واضحة، فأول ما تدخل المدينة ستجد علامات تَدلك على بداية الحرم ونهاية الحرم.

    قال القرطبي في المفهم(3/ 491): وقوله: "لا يُحمل فيها سلاح، ولا تُخبط فيها شجرة"، هذا كله يقضي التسوية بين حرم المدينة وحرم مكة، وهو ردٌّ على أبي حنيفة على ما تقدَّم. انتهى

    ولكن تختلف عن تحريم شجر مكة الذي بيناه في الفتوى رقم (2758) في كون من قَطَعَ شَجَرَهُا أو خَبَطَهُ كان سَلَبُه حلالاً لمن وجده، فهذا الحكم من الأحكام التي يختلف فيها حرم المدينة عن حرم مكة، وهو خاص بحرم المدينة فقط ، ودليله حديث سعد بن أبي وقاص أنَّه وجد عبداً يقطع شجراً أو يَخبطه فسلبه، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلَّموه أن يرُدَّ على غلامهم أو عليهم ما أخذ من الغلام، فقال: «مَعَاذ الله أن أرد شيئاً نَفَّلَنِيه رسول الله» وأبى أن يَرُدَّ عليهم([5]) ، والمراد بالسلب أن يُؤخذ منه فرسه وسلاحه ونفقته التي معه، حتى ملابسه ، فهذا الحديث يدل على جواز سلب من قطع شجر المدينة.

     ولا يجب على من قتل صيداً أو قطع شجراً من حرم المدينة لا جزاء ولا قيمة، فلم يثبت في هذا شيء عن النبي ﷺ، ولكنَّه يأثم ويكون لمن وجده يفعل ذلك أَخْذُ سَلَبِه.

    قال ابن تيمية رحمه الله: وكذلك حرم مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما بين لابتيها، و " اللابة " هي الحرة، وهي الأرض التي فيها حجارة سود، وهو بريد في بريد، والبريد أربعة فراسخ، وهو من عير إلى ثور، وعير هو جبل عند الميقات يشبه العير وهو الحمار، وثور هو جبل من ناحية أحد، وهو غير جبل ثور الذي بمكة.

     فهذا الحرم أيضاً لا يصاد صيده ولا يقطع شجره إلا لحاجة؛ كآلة الركوب والحرث، ويؤخذ من حشيشه ما يحتاج إليه للعلف؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لأهل المدينة في هذا لحاجتهم إلى ذلك، إذ ليس حولهم ما يستغنون به عنه بخلاف الحرم المكي. وإذا أدخل عليه صيد لم يكن عليه إرساله.

    وليس في الدنيا حرم لا بيت المقدس ولا غيره إلا هذان الحرمان، ولا يسمى غيرهما حرماً؛ كما يسمي الجهال فيقولون: حرم المقدس وحرم الخليل؛ فإن هذين وغيرهما ليسا بحرم باتفاق المسلمين. والحرم المجمع عليه حرم مكة، وأما المدينة فلها حرم أيضا عند الجمهور، كما استفاضت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتنازع المسلمون في حرم ثالث؛ إلا في " وج "، وهو واد بالطائف، وهو عند بعضهم حرم، وعند الجمهور ليس بحرم. انتهى مجموع الفتاوى (26/ 117).

    قال ابن الجوزي في كشف المشكل (1/ 194): وقد دل هذا الحديث على أن صيد المدينة وشجرها محرم، وهو قول مالك والشافعي وأحمد بن حنبل. وقال أبو حنيفة: ليس بمحرم. واختلفت الرواية عن أحمد: هل يضمن صيدها وشجرها بالجزاء أم لا؟ فروي عنه أنه لا جزاء فيه وهو قول مالك، وروي عنه أنه يضمن. وللشافعي قولان كالروايتين. وإذا قلنا بضمانه فجزاؤه سلب القاتل، يتملكه الذي يسلبه. وللشافعي قولان مبنيان على القول الذي يرى فيه أنه مضمون: أحدهما: كقولنا. والثاني: يتصدق به على مساكين المدينة. ويفارق المدينة حرم مكة في أن من أدخل إليها صيداً لم يجب عليه رفع يده عنه، ويجوز له ذبحه وأكله.
    ويجوز أن يؤخذ من شجرها ما تدعو الحاجة إليه للرحل والوسائد، وكذلك يؤخذ من حشيشها ما يحتاج إليه للعلف، بخلاف حرم مكة. انتهى

    وقال ابن قدامة في المغني (3/ 325): ويفارق حرم المدينة حرم مكة في شيئين: أحدهما، أنه يجوز أن يؤخذ من شجر حرم المدينة ما تدعو الحاجة إليه، للمساند والوسائد والرحل، ومن حشيشها ما تدعو الحاجة إليه للعلف؛ لما روى الإمام أحمد، عن جابر بن عبد الله، «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حرم المدينة، قالوا: يا رسول الله، إنا أصحاب عمل، وأصحاب نضح، وإنا لا نستطيع أرضا غير أرضنا، فرخص لنا، فقال: القائمتان، والوسادة، والعارضة، والمسند، فأما غير ذلك فلا يعضد، ولا يخبط منها شيء» . قال إسماعيل بن أبي أويس، قال خارجة: المسند مرود البكرة. فاستثنى ذلك، وجعله مباحاً، كاستثناء الإذخر بمكة
    وعن علي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المدينة حرام، ما بين عائر إلى ثور، لا يختلى خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا يصلح أن يقطع منها شجرة، إلا أن يعلف رجل بعيره» وعن جابر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يخبط ولا يعضد حمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن يهش هشا رفيقا» . رواهما أبو داود. ولأن المدينة يقرب منها شجر وزرع، فلو منعنا من احتشاشها، مع الحاجة، أفضى إلى الضرر، بخلاف مكة، الثاني، أن من صاد صيداً خارج المدينة، ثم أدخله إليها، لم يلزمه إرساله. نص عليه أحمد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «يا أبا عمير، ما فعل النغير؟» . وهو طائر صغير. فظاهر هذا أنه أباح إمساكه بالمدينة، إذ لم ينكر ذلك، وحرمة مكة أعظم من حرمة المدينة، بدليل أنه لا يدخلها إلا محرم. انتهى 


    ([1]) أخرجه البخاري (6755)، ومسلم (1370).

    ([2]) أخرجه البخاري (1360)، ومسلم (1360).

    ([3]) أخرجه البخاري (1867)، ومسلم (1136).

    ([4]) أخرجه مسلم (1374).

    ([5]) أخرجه مسلم (1364).

جميع الحقوق متاحة بشرط العزو للموقع © 2024 موقع معهد الدين القيم